ما على عبّاس إنجازه في زيارته الصين

رزان شوامرة

حرير- يبدأ الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، زيارة إلى بكين، غداً 13 يونيو/ حزيران الحالي، تستمرّ ثلاثة أيام بعد دعوة تلقاها من الرئيس الصيني شي جين بينغ. وبهذا، يكون عبّاس الرئيس العربي الأول الذي يحصل على دعوة رسمية لزيارة الصين بعد انتخاب شي رئيسًا للمرة الثالثة على التوالي في مارس/ آذار الماضي. وكانت الصين، عبر وزير خارجيتها تشين قانغ، قد أبلغت الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي في إبريل/ نيسان عن نيتها المساهمة في تسهيل مباحثات السلام بينهما.

انطلاقًا من دعم “يهودية” الدولة الإسرائيلية وما ترتب عليها سلبًا من مواقف صينية تجاه الصراع، تعدّ زيارة عبّاس بالغة الأهمية للجانب الفلسطيني، إذا ما جرى استثمارها بشكل صحيح، خصوصا أنها في إطار دعوة مباشرة من شي الساعي إلى تعزيز دور بلاده وصورتها على الصعيد الدولي. وتمثل الزيارة فرصة للفلسطينيين، على الرغم من محدودية الدور الذي يمكن أن تلعبه الصين وسيطا لسببين: الأول، هيمنة الولايات المتحدة المطلقة على ملف الصراع والأطراف. وثانيًا، الرغبة والقدرة الصينية على التأثير في الأطراف.

يمتلك عبّاس فرصة تاريخية مهمة ومساحة مناورة من شأنها أن تعزّز من الموقف الفلسطيني في المستقبل. والسؤال هنا، كيف يستطيع فعل ذلك؟ أولًا، اللعب على التناقضات بين القوى العظمى للضغط على واشنطن. وتعدّ القدرة على المناورة إحدى أبرز الإيجابيات المتوفرة للأطراف الضعيفة في سياق تعدّد القوى العظمى في النظام الدولي، إذ تستطيع أطراف أي صراع تحقيق أهدافها من خلال استغلال التناقضات والمنافسة بين تلك القوى. عبر استغلال مركزية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في سياسات القوى العظمى، يبعث عبّاس رسالة إلى الإدارة الأميركية من خلال هذه الزيارة، تقول إن الجانب الفلسطيني يبحث جدّيًا عن بديلٍ ليلعب دور الوسيط في الصراع. وبالتالي، يصبح أي احتمال لإجراء مباحثات سلام بين الطرفين برعاية صينية بمثابة “اختراق” حقيقي للهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط، وهو ما لا تريده واشنطن حاليا، وخصوصا بعد استئناف العلاقات بين طهران والرياض برعاية صينية، حيث بدأت واشنطن تفقد تأثيرها على حلفائها الإقليميين لصالح بكين. ثانيًا، المناورة في الساحة الصينية، فمن خلال هذه الزيارة يستطيع عبّاس اختبار حقيقة الرغبة الصينية وقدرتها على إحداث تغيير إيجابي لصالح الفلسطينيين في الصراع. وبالرغم من أن دعوة شي الرئيس عبّاس تخدم مصالح الصين بالدرجة الأولى، حيث تسعى للحصول على قبول وإجماع دوليين لها بوصفها دولة عظمى مسؤولة، خيّرة، وبديلة عن الولايات المتحدة، إلا أنها فرصة فلسطينية أيضاً.

يشغل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حيزًا مهما على أجندة الصين الدولية في الأمم المتحدة، حيث تستغل الصين كل حدثٍ يتعلق بالصراع لمهاجمة الولايات المتحدة بوصفها طرفا داعما لإسرائيل. ولكن، تبقى “دبلوماسية مكبّر الصوت الصينية” في الأمم المتحدة غير مُجدية على أرض الواقع. وهنا يستطيع عبّاس استغلال دبلوماسية الصين لصالحه عبر وضع الأمور التالية على أجندة مباحثاته مع القادة الصينيين:

أولًا، تقديم طلب رسمي لوقف الاستثمار الصيني في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس، ووقف الاستثمار في الشركات الإسرائيلية التي تتعامل بشكل أو بآخر مع المستوطنات، وفي مقدمتها شركة تنوفا التي أصبحت مملوكة للدولة الصينية عام 2014. ونضيف المُطالبة بوقف مشاريع البنية التحتية المموّلة صينيًا، وعددها نحو 22 خط مواصلات عامة تربط بين المدن ومستوطنات ماطيا يهودا التي يبلغ عددها 16 مستوطنة المقامة على الأراضي المحتلة في القدس الشرقية والضفة الغربية. وضرورة الالتزام بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي حظرت التعامل مع الشركات الاستيطانية، في مقدمتها شركة أهافا للتجميل التي استحوذت الصين عليها عام 2016.

وهنا على الطرف الفلسطيني أن يعبّر بقوة عن هذا الموقف والتخلي عن خطاب الاستجداء “احمونا”؛ فالصين هي الداعية، وهي بحاجة للملفّ الفلسطيني لتعزيز قوتها الدبلوماسية الصاعدة. ويمكن أن يذهب الفلسطينيون إلى أبعد من ذلك، عبر التلويح باستخدام قواعد القانون الدولي لوقف السياسات الصينية. وطالما أن الصين تنادي بضرورة تطبيق القانون الدولي لحل الصراع، فهي ملزَمة بالامتثال لقواعده، فالاستيطان جريمة دولية من شأنها أن تضع الصين أمام القضاء الدولي لانتهاكها قواعد آمرة. ونضيف على ذلك، طالبت الصين، في مقترحات حل الصراع التي قدمتها سابقًا، وفي كل خطاباتها الرسمية، الجانب الإسرائيلي بإنهاء الاستيطان، وهنا يجب وضع الصين أمام تناقضاتها. ولا يمكن للصين أن تمارس دور الوسيط إذا ما استمرّت بالاستثمار في المستوطنات، لأنها تحوّل نفسها من طرف يدّعي الحياد إلى أحد أطراف الصراع، وتقع عليها مسؤولية دولية.

ثانيًا، مطالبة الصين بالتوقف عن خطاب المساواة بين جرائم الاحتلال ومقاومة الشعب الفلسطيني المكفولة بالقانون الدولي. حيث تطرح الصين خطابًا رسميًا في الأمم المتحدة يظهر الصراع حربًا بين طرفين متساويين في القوة، إذ تطالب الأطراف بوقف العنف والإرهاب. وتكمن خطورة هذا الخطاب في تبرير جرائم إسرائيل وسياساتها، وينفي عنها صفة أنها كيان استعماري استيطاني إحلالي.

ثالثًا، مطالبة الصين بمراجعة خطابها الذي يربط بين إسرائيل وما تطلق عليه “الحضارة اليهودية”. فمنذ عام 1992 التزم الخطاب الصيني بصيغة واحدة بشأن أهمية العلاقات مع إسرائيل باعتبارها ممثلة عن الشعب اليهودي في العالم، وأن الشعبين الإسرائيلي واليهودي عانيا عبر التاريخ من ظلم تاريخي. وهذا خلطٌ يرفضه يهود كثيرون لا يعتبرون إسرائيل ممثلة ليهود العالم ولا للثقافة اليهودية. لقد تخطّى هذا الخطاب أزمة اليهود التاريخية، والتي لا يمكن إنكارها، إلى التعدّي على الحقوق الفلسطينية، فلدعم الصين، القوة العظمى الصاعدة، يهودية الدولة الإسرائيلية، تأثيرات سلبية مستقبلية على قدرات الشعب الفلسطيني الديموغرافية والسياسية في مواجهة الاحتلال. تبنّي الصين هذا الخطاب يعني تشجيع هجرة يهود العالم إلى فلسطين، وإعطاء شرعية إضافية لها، ولكن من الشرق هذه المرّة، كما الغرب.

رابعًا، ولأن الصين تطرح نفسها وسيطا لحل الصراع، فإن عودة اللاجئين الفلسطينيين من أهم القضايا التي يجب أن يركز عليها عبّاس في زيارته. ففي وقتٍ تدعم فيه الصين “يهودية” الدولة الإسرائيلية، يغيب عن كل مقترحات السلام التي قدّمتها أي شيء يتعلق بعودة اللاجئين.

خامسًا، على الرئيس عبّاس طرح قضية التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل وما تشكله من مخاطر على الوضع السياسي للصراع، فقد رحبت بكين باتفاقيات أبراهام ودعمت الأطراف، وتقوم سياساتها الإقليمية على خفض التوترات بين الدول، ومن الممكن أن تسعى الصين، كما الولايات المتحدة، إلى توسيع إطار التطبيع العربي مع إسرائيل. وهنا، من الضروري أن يتخذ الرئيس الفلسطيني خطوة استباقية للوقوف عند هذه القضية، والرجوع إلى الإجماع العربي وشروطه فيما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل. ويمكن أن يحقّق ذلك، لأن الصين تمتلك قوة تأثير على الدول العربية المتبقية في الوقت الحالي، وتستطيع من خلالها أن تُسير الاتفاقيات بطرقٍ يمكن أن تخدم الفلسطينيين.

وأخيرًا، التركيز على المفاهيم المستخدمة من الصينيين في هذه الزيارة، بحيث يجد عبّاس أن هناك توازنا بين أهمية دعوة شي له وقوّة المقترحات التي ستقدّمها وإمكانية تطبيقها، فقد قدّمت الصين أكثر من مقترح لحل الصراع، خالية من أي التزام صيني حقيقي، ويطغى على المقترحات سياسة “تحويل المسؤولية”، فقد أشارت إلى ضرورة التزام الأطراف بالقواعد الدولية، وعلى المجتمع الدولي أن يمارس أدوارًا نشطة، وعلى القوى العظمى القيام بدور أكبر. أي أنها لا تولي نفسها أي مسؤولية أو ممارسة حقيقية كمحاولة لإنهاء الصراع أو التأثير على مجرياته إيجابًا. وفيما يتعلق بإمكانية الصين للضغط على إسرائيل، تستطيع الصين استغلال ورقتين رئيسيتين لإظهار رغبتها الحقيقية لتلعب دور الوسيط. أولًا، اقتصاديًا، الصين الشريك الأول لإسرائيل في العالم والأول في آسيا. وتمثل إسرائيل واحدا من ثلاثة مواقع استراتيجية في طريق الحرير الصيني في الشرق الأوسط. ثانيًا، تسهيل اختراق اسرائيل القارّة الآسيوية، فقد أصدرت إسرائيل عام 2010 استراتيجية “التوجّه نحو آسيا”. وقال رئيس الحكومة نتنياهو آنذاك إن إسرائيل دولة طبيعية من حقّها أن تنشأ تحالفات أبعد من الغرب، وأنها لا تقبل بأن تبقى محكومةً لتقلبات الإدارة الأميركية فيما يتعلق بملف الصراع.

حتى وإن لم يحدُث أي تطور حقيقي في الأحداث بين الأطراف لصالح فلسطين، يكون عبّاس قد أوصل رسالة إلى بكين تتعلق بسياساتها، وبالتالي، يمكن أن يحقق نجاحا في إجراء تعديلات على الخطاب والسلوك الصينيين تجاه الصراع بما يخدم الجانب الفلسطيني. وأيضًا في حالة لم يحدُث أي تأثير على ساحة واشنطن أو بكين أو على صعيد المباحثات، يكون الجانب الفلسطيني قد عدّل من رؤيته إلى طبيعة دور الصين في حال لم تُحدِث الأخيرة أي تعديل على سياساتها، وتوقفنا عن تكرار الانطباعات التي تروّجها الصين عن دعم القضية الفلسطينية.

يستطيع عبّاس من خلال زيارته بكين أن يحقق نجاحًا آخر على الصعيد الداخلي. بالرغم من أن هدف الزيارة محاولة إيجاد سبل لإعادة مباحثات السلام بين الأطراف، إلا أن من شأن التطرّق لسياسات الصين أيضًا أن يعيد الثقة بالسلطة الفلسطينية، خصوصا إذا ما نجح عبّاس على أقل تقدير في تعديل سياسات الصين فيما يتعلق بوقف الاستثمار بالمستوطنات. على الرئاسة الفلسطينية أن تذهب إلى اللقاء وهي على قناعة بأن الصين بحاجة للملفّ الفلسطيني، وأن نجاح الصين في عقد مباحثات سلام مع الأطراف يعني، بشكل مباشر، أكبر اختراق صيني للإقليم، وهو ما تسعى إليه بكين، وبالتالي، لا نذهب بموقف الضعيف.

مقالات ذات صلة