أزمة الوعي الفلسطيني … الوهم الثوري والاستسلام

حيان جابر

حرير- يكثر الحديث في الشأن الفلسطيني عن الاعتداءات الصهيونيّة المستمرّة، وعن النضال الفلسطينيّ الشعبيّ والمنظّم، في حين يندر الحديث عن أزمة الوعي الفردي والجماعي، أو عن انعكاسات الهزيمة على الوعي الجمعيّ الفلسطينيّ وانعكاساتها السياسيّة والميدانيّة. طبعاً، لا تعني الهزيمة الاستسلام بالضرورة، بقدر ما تعكس الحاجة إلى معالجة أسبابها وتحديد متطلبات النجاح وامتلاكها، من أجل عكس الهزيمة وتجاوزها نحو تحقيق الأهداف المرجوّة. نتج الوعي المهزوم فلسطينيّاً من حدثين مفصليّين، أوّلهما النكسة؛ التي استفاض كتاب ياسين الحافظ “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة” في شرحها، في حين يتمثل الثاني في اتّفاق أوسلو، إذ يعتقد كاتب هذه المقالة أنّ هذا الاتّفاق كان تجسيداً سياسيّاً لهزيمة نهج الفصائل والتنظيمات الفلسطينيّة؛ حركة فتح والجبهتين الشعبيّة والديمقراطيّة، والقوى الحليفة لهم إقليميّاً ودوليّاً.

انطلق ياسين في كتابه المذكور من اعتبار النكسة كاشفاً لأزمة النظام والمجتمع الإقليميّ المهزومين، وجهد في شرح أسباب الأزمة وتجلياتها، إذ انطلق من أنّ أزمة النظام بينة وواضحة لدى معظم المثقفيّن والمعنيّين بالشأن العام، على عكس أزمة المجتمع التي تجاهلها القسم الأكبر منهم عن قصد أو دونه، الأمر الّذي أفضى إلى أزمةٍ على ثلاثة مستويات رسميّة ومجتمعيّة وعلى مستوى النخب الثقافيّة والسياسيّة. فلسطينيّاً؛ اعتبر ياسين تصاعد العمل الفدائيّ بعد النكسة عاملاً حاسماً في تجاوز آثار الهزيمة وتداعياتها، بشرط عدم تحميله أكثر مما يحتمل، والمقصود عدم تحميله مسؤولية إزالة جميع آثار الهزيمة، إذ اعتبره ياسين شرطاً لازماً لكنه غير كافٍ، ما يعني ضرورة تجاوز سائر أسباب الهزيمة الأخرى، وفي مقدمها التخلف والتشرذم الإقليميّان.

كما استفاض كتاب ياسين في شرح طوباويّة شعارات الفصائل الفلسطينيّة؛ الحرب الشعبيّة والفلسطنة، وقد تنبأ بمصيرها الراهن، استناداً إلى تبنّي خطاب وممارسات لا تتناسب مع الواقعين، الذاتي والموضوعي. وهنا لم يقصد ياسين رفض العمل الفدائي بحدّ ذاته، بل نقد سياقه ودوره وحجمه وطبيعته. كذلك يعتقد الكاتب أنّ اتفاق أوسلو قد أسس لنهجين فلسطينيّين يعبر كّل منهما عن أزمة النخبة والمجتمع الفلسطينيّ، أوّلهما نهج الاستسلام؛ الذي سارت؛ وما تزال، عليه منظّمة التحرير ممثلةً بحركة فتح، إذ لا يعبر هذا النهج عن إقرار المنظّمة ومكوّناتها بفشلها في تحقيق أهدافها التي انطلقت من أجلها فقط، بل يعبر عن قناعتها شبه الراسخة باستحالة تحقيق هذه الأهداف بأيّ طريقةٍ أو أسلوبٍ آخر، لذا لم تعمل المنظّمة على نقد التجربة السابقة والبناء عليها بعد معالجة أخطائها، لاستكمال العمل الفدائي والنضالي وفق نهج أكثر واقعية وموضوعية، بل سارعت نحو تبنّي مسار جديد كّلياً، تمثّل سياسيّاً في التنكّر لميثاق منظّمة التحرير ولخيار الدولة الواحدة لصالح البرنامج المرحلي وتبني حلّ الدولتين، وتمثل على المستوى العملي في التنكّر لأسلوب النضال المسلّح؛ شعبيّاً أم إقليميّاً أم نخبويّاً، لصالح الأسلوب التفاوضيّ، أو بالأصح الاستسلاميّ.

هنا يجب الإشارة إلى انطلاق كل من منهجي الفصائل والمنظّمة السابق والحالي من الخطأ نفسه، القائم على انفعالية وتسرّع واعتباطية لا تكترث لشروط النهج المتبع ومتطلباته، إذ تبنّوا استراتيجيّة الحرب الشعبيّة في ظل نظام إقليميّ قابض على إرادة الشعب وحركته، فضلاً عن تناقض مصالحه الفئوية مع خيار الحرب الشعبيّة والمسار التحرّري إجمالاً. ثمّ تبنّوا الخيار الاستسلاميّ أو الانهزاميّ من دون تملّك أدواته وشروطه، سيّما ميزان القوى على الأرض، معوّلين على حسن نيّة الطرف الآخر فقط، أو في أحسن الأحوال على حسن نية المجتمع الدوليّ، المعني عمليّاً بمصالحه فقط، وغير المكترث بمصائر شعوب العالم، وبقيم العدالة الإنسانيّة.

كذلك أسّس “أوسلو” لنهج ثانٍ يبدو ظاهرياً نقيضاً لنهج الاستسلام، لكنه ينبع في الواقع من الرحم ذاتها، وهو نهج الوهم الثوريّ، أو الطوباوية الثوريّة، وهو تكرارٌ شبه مطابق لنهج الحرب الشعبيّة السابق. وهنا لا نقصد النضال التحرري العنيف أو المسلح بذاته، بل السياق الذي يستخدم فيه، والبروباغندا الإعلامية التي تغذّيه وتحيط به، إذ ينطلق هذا التيّار من حتمية انهيار الاحتلال الصهيونيّ تحت ضربات المقاومة الفلسطينيّة، رغم المدلولات الميدانيّة المعاكسة لهذا الادّعاء، ومن دون الأخذ بالاعتبار شروط القضاء على الاحتلال عامةً، والاحتلال الصهيونيّ خاصةً، مثل وحدة أهداف شعب فلسطين الأصليّ وتطلعاته، وتكامل النضال الشعبيّ على امتداد الجغرافيا الفلسطينيّة، ومعالجة تداعيات اتّفاق أوسلو الميدانيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة، وضبط الانتماءات الضيقة عشائريّة ودينيّة وعائليّة، لصالح تعزيز الانتماء والولاء الوطني ومبدأ الكفاءة بدلاً من المحسوبيّة، ومجابهة دور المال السياسيّ الداخليّ منه والخارجيّ، وتعزيز قيمة العمل المنتج، خصوصاً الجماعيّ، وتعزيز الأطر الجماعيّة السياسيّة والاجتماعيّة، النقابيّة والأهليّة، فضلاً عن تهيئة الظرفين الإقليميّ والدوليّ المناهضين اليوم أيّ مشروع تحرّري حقيقي، بما يشمل دول محور الممانعة والصين وروسيا، الذين يحابون ويدعمون بعض، وأحياناً مجمل القوى والأطراف المقاومة ضمن حدودٍ محسوبةٍ ودقيقة، تضمن لهم مصالحهم الفئويّة على المستوييْن الإقليميّ والدوليّ من ناحية، وتكسبهم ورقة ضغط وازنة من ناحية ثانية. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى تعميق مصالح كل من الصين وروسيا مع الاحتلال، حتى بات الاحتلال عنصرا مركزيّا في حساباتهم ومصالحهم الإقليميّة والدوليّة، وبدرجة أقل نلحظ تفاهماً بين دول محور الممانعة والاحتلال، يصل، في بعض الأحيان، إلى حدّ تقاطع المصالح إنّ لم نقل تطابقها.

يصبُّ نهج الطوباوية الثورية، في نهاية المطاف، في صالح النهج الاستسلاميّ والانهزاميّ، بدلاً من مجابهته، لأنّه يصعد بمعنويات حاضنته الشعبية بسرعة البرق، وبفترة قصيرة وسريعة، ثمّ يهوي بها إلى القاع بالسرعة ذاتها وربّما أسرع، وهو ما يحبط الحاضنة الشعبيّة ويعزّز ثقافة الانهزام بدلاً من مجابهتها، كما يساهم في تعزيز الثقافة الاتكالية، المعتمدة على دور المجموعات المسلحة فقط، بدلاً من ثقافة العمل والنضال الجماعي وتكامل النضال وتنوّعه، إلى جانب تداعيات سلبية أخرى.

وعليه، علينا تبنّي نهج النضال المستمرّ طويل الأجل، إلى جانب العمل على إنضاج الظرفين الذاتيّ والموضوعيّ، على اعتبارهما شرطين رئيسيّين لبدء التحضير لمعركة التحرر الشامل والكامل مستقبلاً، وربّما في المستقبل البعيد نسبياً، نظراً إلى تعدّد مظاهر الضعف والتفكّك والهزيمة؛ الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، من دون أنّ يُنقص ذلك من شرعية جميع الأشكال النضاليّة وضرورتها، بل وضرورة استمرارها، لكن بعيداً عن تهويلات الخطاب الثوريّ الطوباويّ.

مقالات ذات صلة