ملاحظات في الديمقراطية التركية

حسين عبد العزيز

حرير- سلّط المشهد الانتخابي التركي في الجولتين، الأولى والثانية، الضوء على رسوخ الديمقراطية وعلى التنافس الحاد بين تحالفين حزبيين وقواعدهما الشعبية بشأن قضايا الدولة والمجتمع. يعتبر رسوخ الديمقراطية في تركيا عاملا في غاية الأهمية لاعتبارين: الأول داخلي، بعد انزياح نظام الحكم في تركيا قليلا نحو التسلّط بفعل منح الرئيس سلطات دستورية كبيرة منحته القدرة على ضبط المجتمع المدني والهيمنة على صحفٍ لم يكن بالإمكان الهيمنة عليها سابقا. الثاني، توسّع ظاهرة التسلّط في الأنظمة الديمقراطية الناشئة خلال العقدين الأخيرين، كما حدث في المجر عام 2010 مع رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، وبولندا مع حزب “القانون والعدالة” عام 2015، والفيليبين مع الرئيس رودريغو دوتيرتي عام 2016، وغيرهم من البلدان.

تعدّ المشاركة الشعبية الواسعة في العملية الانتخابية في تركيا الأفضل على مستوى الديمقراطيات في العالم، بما فيها الديمقراطيات الغربية الراسخة، ويؤشّر ذلك على عمق الديمقراطية في تركيا، ليس على مستوى المؤسّسات فحسب، بل على المستوى الشعبي أيضا، مع ترسّخ وعي جمعي أصيل يعتبر الديمقراطية الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه تحت أي سببٍ كان، بخلاف التوجّهات الشعبية في النظم الديمقراطية الشكلية، حيث لا يثق الشعب بديمقراطية النظام كما حدث في الانتخابات المصرية عام 2018، حين تدنّت مستويات المشاركة الشعبية بشكل ملحوظ في الانتخابات الرئاسية. ومع ذلك، لا يكفي وجود مؤسّسات ديمقراطية فعّالة تضمن إجراء انتخابات حرّة ونزيهة لوصف نظام ما بأنه ديمقراطي، فالديمقراطية اليوم غير منفصلة عن الليبرالية، وأي خللٍ في إحداهما يؤدّي إلى التسلّط الذي إذا ما استمر طويلا قد ينتهي إلى الاستبداد.

ولعل حجم المشاركة الشعبية الكبيرة جدا، وتقارب النتائج، يؤشّران إلى وجود خلاف حاد على المستوى الشعبي، فالناخب التركي الشاب الذي لم يختبر مرحلة ما قبل “العدالة والتنمية”، يُجري مقارنة اقتصادية بين الوضع الحالي وما كانت عليه البلاد قبل نحو 15 عاما، فيفضّل نخبا سياسية غير أردوغان وحزبه، فيما تحمل الطبقة الوسطى المتعلّمة والمشاركة بقوة في المجتمع المدني معايير أخرى إضافة إلى الاقتصاد. وإذا كانت انتخابات البلدية السابقة عام 2019 قد حملت الهم الاقتصادي والخدمي، فإن الانتخابات البرلمانية والرئاسية أخيرا حملت أبعادا مدنية وسياسية. ويتعلق الأمر هنا بحرية الصحافة، وحرية التعبير، وفعالية مؤسّسات المجتمع المدني، وتوسّع بيروقراطية حزب العدالة والتنمية.

ووفقا لبيانات المؤشّر العالمي لحرية الصحافة 2020، تأتي تركيا خلف دول مثل كمبوديا والجزائر في مجال حرّية الإعلام، فقد احتلت المرتبة 154 من بين 180 دولة، فيما تراجع ترتيبها في عام 2021 إلى المرتبة 149 وفق منظمة “مراسلون بلا حدود” التي حذّرت من تزايد الاستبداد في البلاد وتراجع التعدّدية الإعلامية.

على صعيد البيروقراطية، عزّزت التعديلات الدستورية لحزب العدالة والتنمية التي أقرت عام 2017 سلطات الرئيس مع تحوّل تركيا من نظام برلماني إلى رئاسي، وعلى صعيد مؤشّر سيادة القانون، احتلت تركيا المرتبة 117 من بين 139 دولة. وفي استطلاع للرأي ضمن مؤشّر إدراك الديمقراطية، أجرته مؤسسة “لاتانا” المتخصّصة في الاستطلاعات عام 2021، قال غالبية المشاركين في الاستطلاع إن تركيا ليست ديمقراطية.

بحسب كثيرين من المراقبين للديمقراطية، تشهد تركيا، منذ اعتماد النظام الرئاسي، انزلاقا نحو الديمقراطية الاستبدادية، لجهة منح الرئيس صلاحياتٍ دستوريةٍ واسعة، ولجهة تطابق أو تماهي مؤسّسات الحزب مع مؤسسات الدولة في بعض المجالات، ما دفع بعض الباحثين إلى وصف هذا الوضع بـ “ديمقراطية الهيمنة”، من حيث إن النظام الديمقراطي التركي يحافظ على عملية تداول السلطة بشكل سلمي عبر انتخابات حرّة ونزيهة، ويحافظ على مبادئ القانون، وحقوق الأقليات، وحقوق الإنسان، فيما يقيّد في المقابل عمل المؤسّسات الدستورية، ضمن حقوقه القانونية التي اكتسبها من الانتخابات، لا ضمن ثقافة سياسية تتجاوز مسألة الإجراء الانتخابي. ويضغط بقوة على معارضيه، سواء على مستوى الأحزاب، أو على مستوى مؤسسات المجتمع المدني، أو على مستوى الأفراد.

وصف الديمقراطية التركية بديمقراطية الهيمنة صحيح إلى حد كبير. وفي المقابل، يمكن وصف مفهوم “ديمقراطية الهيمنة” بأنه فضفاض لا يعبّر بدقة عن حالة الديمقراطية في بلدٍ ما. فمثلا، لا يمكن وضع الديمقراطية تركيا في المستوى نفسه مع الديمقراطية في فنزويلا ومصر على سبيل المثال. في الحالة الأولى، ثمّة عملية انتخابية ثابتة وحرّة ونزيهة. أما في الحالتين الفنزويلية والمصرية فلا توجد عملية انتخابية حرّة ونزيهة إلا في حدودها الدنيا.

من هنا، حتى في وجود نظام قانوني نزيه وحماية الحقوق من دون انتخابات حرّة يمكن أن يخلق مجتمع مفتوح نسبيا، ولكن من دون الانتخابات يبقى المجتمع غير ديمقراطي. في المقابل، وهذه هي الحالة التركية، حيث الحكومة منتخبة لا تحمي الحرّيات المدنية ويمكن أن تكون استبدادية، عبر السماح لمجموعة بقمع الحريات السياسية.

وإذا كانت الديمقراطية تعني كيف تحدّد الانتخابات الدورية شكل المجلس التشريعي ومن يتولى السلطة التنفيذية في الحكومة، ووجود منافسة حرّة وعادلة بين المرشّحين والأحزاب، فإن الليبرالية تعني حماية الحرّيات المدنية الأساسية بالقانون والإجراءات الوقائية الدستورية، في حين تنفذ التشريعات والقواعد القانونية على حد سواء بواسطة نظام قضائي وقانوني مستقل.

التحدّي الأبرز للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية يكمن في توسيع مروحة الحرّيات المدنية والسياسية وفق الدستور، بما يساهم في إحداث نقلة مهمة في الديمقراطية الليبرالية، تنعكس بالضرورة بشكل إيجابي على مناحي الحياة كافة.

مقالات ذات صلة