لمنع توسّع الصراع بالسودان … قطر في وساطة متعدّدة

وديع محمود العرابيد

حرير- مضى نحو شهرين على الصراع المسلح في السودان، وتجاوز عدد القتلى 413، بينما وصل عدد الإصابات إلى حوالي 3551 وفقًا لأحدث تقديرات الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه، بدأت تتكشّف ببطءٍ معالم كارثة إنسانية جديدة في الخرطوم، وتدهورت الأوضاع الإنسانية المتدهورة أصلًا. وتفاقمت الأزمة بفعل إجلاء العاملين الإنسانيين وتجميد عمليات الإغاثة في الأسابيع الأولى من نشوب الصراع، بالتزامن مع ارتفاع أعداد اللاجئين والنازحين. ومع تحوّل الخرطوم إلى ساحة حرب، تبرُز حاجة لوجود دور أقوى من الأطراف الثالثة وتعبئة الجهود بشكل أفضل لمنع انتشار العنف إلى مناطق أخرى. دفعت موجة العنف الحالية في السودان أطرافا عديدة دولية وإقليمية، أبرزها السعودية والولايات المتحدة، إلى بذل المساعي الحميدة من أجل التوصّل إلى وقف إطلاق نار بين الخصوم. وبعد جهود عديدة متعثّرة، توصل الأطراف إلى اتفاق لوقف إطلاق نار لسبعة أيام قابلة للتمديد في جدّة بوساطة سعودية أميركية، دخل حيز التنفيذ ليل الإثنين 22 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، ووُصف بأنه “مجرد خطوة طارئة قصيرة المدى”.

توجد فرصة كبيرة في الأفق، لتوسيع نطاق ساحة الوسطاء في السودان، ففي ظل رفض أي من الطرفين نقل الحوار إلى مستوى تتم فيه مناقشة مدى قابلية التوصل إلى اتفاق سياسي بين الخصوم، فإن كلًا من السعودية والولايات المتحدة، يمكن لهما الاستفادة من مزايا شريك عربي آخر مثل دولة قطر، خصوصًا مع امتلاكها بوصفها طرفا ثالثا إمكانات عديدة للعمل على منع توسع دائرة الصراع ضمن ما يمكن أن تسمّى الوساطة متعدّدة الأطراف.

يبدو واضحاً أكثر فأكثر أن الجهود الحالية محدودة ومركّزة على الجانب الإنساني، حيث تنصب على وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية وآلية مراقبة وممرّات للمساعدات، مع رفض الأطراف الحديث عن أي تسوية سياسية طويلة الأمد. يُضاف إلى ذلك أن تلويح الولايات المتحدة بفرض عقوبات ضد كلّ من قائد القوات المسلحة السودانية، عبد الفتاح برهان، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي، إذا لم يلتزما بالتهدئة المتّفق عليها، يوحي بأن دورها في الوساطة، على الرغم من عدم التقليل بأهميته، ربما يعمّق عامل الشعور بالتهديد والخوف لدى أطراف الصراع، وهو ما قد تنجم عنه أزمة ثقة قد تؤثر على مستقبل أي عملية سلام مقترحة.

من ناحية أخرى، يلمح بعضهم إلى وجود مصلحة خاصة تسعى إلى تحقيقها السعودية من اندفاعها للتوسّط لحل الصراع في السودان. على سبيل المثال، تقترح آراء أن هدف جهود السعودية استعادة دورها صانع سلام في المنطقة، بعد سنوات من اتّباع سياسة تدخّلية، خصوصًا في اليمن، وتبنّي نهج السلام الصلب القائم على استخدام القوة العسكرية، فضلًا عن سياسة القطيعة الدبلوماسية مع جيرانها كان أهمهم إيران، انتهت بوساطة صينية بتاريخ 10 مارس/ آذار 2023. من زاوية أخرى، تظهر مساعي السعودية في السودان، كما يراها بعضهم، على الأقل خلال السنوات الثلاث الماضية، بداية لمرحلة جديدة تتجسّد في تبني الرياض سياسة خارجية تستند إلى أدوات القوة الناعمة بدلًا من القوة الصلبة، أهمها الوساطة، ومدفوعة برغبة السعودية في ترويج صورتها لاعبا مؤثرا في ديناميات السلام والاستقرار في المنطقة.

مع ذلك، بالنظر إلى المشهد الحالي لمجال عملية الوساطة في السودان، وعلى الرغم من أهمية دور السعودية في بذل جهودٍ لوقف إطاق النار مع الولايات المتحدة، خصوصًا مع قوة العلاقات التي تمتلكها مع الخصوم، يشكّك محللون عديدون في مدى قدرة الوسطاء الحاليين على إقناع الأطراف المتنازعة على القبول بتسويةٍ شاملة. يهدّد الصراع الحالي في السودان جميع المكاسب التي يمكن أن تكون قد حققتها البلاد في مرحلة الانتقال الديمقراطي، بل يوجد قلق حقيقي من أن دائرة العنف قد تتمدّد وتتوسّع بطريقة قد تضع السودانيين في مواجهة نزاع طويل الأمد بمحصلة صفرية. يضاف إلى ذلك أن عملية الوساطة الحالية في السودان تواجه تحدّيا تجب معالجته، وهو الشمولية التي تفتقدها الجهود الحالية.

في ضوء ذلك، انصبّ تركيز الوسطاء على فتح منصّة الحوار لأطراف الصراع فقط، في حين بقيت جميع الأطراف الأخرى من الأحزاب المدنية ولجان المقاومة، وغيرها من القوى المجتمعية والسياسية الفعالة في السودان، متفرّجة، وفي الوقت نفسه، هؤلاء عرضة للاستقطاب الشديد، وهو ما يهدّد في توسّع دائرة العنف مستقبلًا. من هذا المنطلق، يتطلّب السياق الذي يمرّ فيه السودان توسيع فضاء الفاعلين في عملية الوساطة، ليتضمن أطرافا ثالثة، لديها المهارات والإمكانات اللازمة لصياغة وبلورة وتنفيذ أنشطة ومبادرات مختصّة في منع توسع الصراع و/أو الوقاية من الصراع واحتوائه، إلى جانب قدرتها على تقوية إجراءات الثقة بين أطراف الصراع والمجتمع بمكوناته كافة، وذلك ضمن إطار الوساطة متعدّدة الأطراف.

أثبتت قطر في السنوات الماضية قدرتها على التحدّث والتواصل مع أطرافٍ عديدة في المنطقة، منهم من جرى التعامل معهم من جهات دولية وإقليمية عديدة وفقًا لسياسة عدم الاتصال، مثل حركتي حماس وطالبان وحزب الله، وعديد من الحركات المسلحة في دارفور، كما جذبت أطرافا متنازعة عديدة إلى طاولة المفاوضات. وهنا يبرز “الدور التصوّري” الذي تمثله قطر في تقديم الأفكار والبدائل لهذه الجهات، وهي ميزة قد لا تتوفر في مساعي الوساطة التي تقودها دول كبرى. لدى قطر كذلك علاقات سياسية واسعة وموارد مالية، من شأنها أن تكون عوامل رئيسية، إلى جانب الإمكانات التي تتمتع بها السعودية والولايات المتحدة، في تحسين مستوى التدخل الدبلوماسي ونقله إلى مراحل متقدّمة. من شأن العلاقات السياسية الوطيدة التي يتمتع بها الوسطاء الثلاثة، مع عديد من الأطراف المهمة، منهم الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير وغيرهم من القوى المجتمعية السودانية أن تدفع عملية الوساطة إلى الأمام.

علاوة على ما سبق، تشير السمة التي تتمتع بها قطر، والمتمثلة في القدرة على استثمار قوة العلاقات، حينما تولّت دور الوسيط، والتي كان لها دور هام في إقناع الحركات المسلحة في دارفور والحكومة السودانية بقبول تسوية تفاوضية عام 2011، إلى قدرتها على تأدية دور هام في مجال الوقاية من تمدّد الصراع بين أطرافه خارج دوائره الرئيسة الحالية. خلال فترة الوساطة القَطرية في دارفور، عمل الدبلوماسيون القطريون تدريجياً مع الحكومة السودانية وحركات مسلحة عديدة في دارفور. وفي فبراير/ شباط 2010، نجح الوفد القطري في إقناع الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة، التي رفضت لاحقًا التوقيع على وثيقة “سلام دارفور”، بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في دارفور. بعد ذلك، وقّعت مجموعات متمرّدة صغيرة أخرى معروفة باسم حركة التحرير والعدالة أيضًا على اتفاقية إطار ووقف لإطلاق النار، تلاها التوقيع على وثيقة “سلام دارفور” في 14 يوليو/ تموز 2011.

تعكس هذه الجهود الخبرة التراكمية التي تتمتع بها قطر بوصفها وسيطا طرفا ثالثا في دارفور، حيث أدّت جهودها إلى لعب دور هام على صعيد الاستقرار والأمن في المنطقة بعد نزاع معقّد وشائك دام سنوات. إزاء هذا السياق، توجد مخاوف كبيرة من سيناريو توسّع نطاق دائرة العنف إلى دارفور، معقل قوات الدعم السريع، وذلك في حالة اندحار الأخيرة من الخرطوم. ومن هنا، يمكن لقطر أن تلعب دورًا أساسيًا، بناءً على خبرتها السابقة في المنطقة، في الوقاية من توسّع دائرة الصراع إلى هذه المنطقة المعروفة بوجود استقطاباتٍ شديدةٍ على المستويين الاجتماعي والسياسي. ومن السمات المميزة الأخرى للمهام التي تعكس إمكانات قطر في هذا المجال، “قوة الخبراء”، التي تتمثل في المستويات العالية من المشاركة الشخصية التي أبداها كبار الدبلوماسيين القطريين، مثل وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية أحمد بن عبد الله آل محمود، الذي قضي شهورًا في لقاء أصحاب المصلحة الدوليين لاكتساب نظرةٍ معمّقة على المستوى العالمي، إضافة إلى إجراءات الدبلوماسية المكّوكية التي التقى خلالها بشخصياتٍ بارزة في الحكومة السودانية والحركات المسلحة والقوى المجتمعية المتأثرة من الصراع، وهو ما ساهم، بشكل كبير، في إنهاء سياسة عدم الاتصال بين الأطراف المتنازعة آنذاك.

وعلى الرغم من أن الأزمة الحالية تحتاج إلى أكثر من مجرّد فتح قنوات إتصال، إلا أنه تجدُر الإشارة هنا إلى أن مساعي الوساطة التي تقتصر على مجرّد فرض الإملاءات على أطراف الصراع لا يمكن أن تساهم في حلول طويلة الأمد، إذ تتطلّب الصراعات المعقّدة وجود مجموعة من الأطراف الفاعلة، التي تمتلك القدرة والإمكانية لتنفيذ سلسلة من الإجراءات التكميلية التي تهدف إلى بناء السلام واحتواء العنف ومنع دائرته من التوسّع، ولا يوجد ما يمنع وجود جهاتٍ تابعةٍ لأيٍّ من الأطراف المتنازعة، وهو ما يمكن لقطر القيام به، نظرًا إلى تجربتها السابقة في هذا الشأن. عديد من مساعي الطرف الثالث لتسوية الصراعات في العالم تتكون من مجموعة من الوسطاء الذين يتدخلون في وقتٍ واحد، ويقدّمون جهودا عديدة بالتزامن، على درجاتٍ متفاوتة وبنسب مختلفة من النجاح، ويطلق على هذا النوع من الوساطة “الوساطة المتعدّدة”.

وهنا ينبغي الأخذ في الاعتبار أن هذه سمات تتمتع بها دولة قطر، إلا أن فعاليتها في السياق السوداني قد تتلاشى إذا لم يكن لدى الوسطاء جميعهم فهم مشترك لكيفية إدارة الصراع ونوع النتيجة التي ينبغي السعي وراءها، إذ ينوّه الخبراء في هذا المجال بأنه في مثل هذه الظروف، قد تبدأ الجهات الوسيطة في إرسال “إشارات مختلطة” إلى الأطراف المتنازعة، والبدء في العمل على أهداف متعارضة، وبالتالي، تعريض فعالية عملية صنع السلام لخطر الانهيار.

في الواقع، تبرز أهمية الوساطة في حقيقة مفادها بأن معظم الصراعات في العالم تدمّر عامل الثقة بين أطرافه، حيث تتدهور وسائل التواصل والحوار بشأن أية حلول مستقبلية، الأمر الذي يجعلهم عالقين في فخّ الصراع، فضلًا عن احتمالية تمدّد شبكات العنف خارج مراكزه الحالية كما هو الحال في السياق السوداني. لهذا السبب، قد يكون من الملائم، تدخل دولة قطر طرفا ثالثا في الصراع من أجل المساعدة في عملية الوساطة الجارية، من أجل تثبيت اتفاق طويل الأمد، والشروع في إجراءات منع توسع الصراع و/أو الوقاية منه واحتوائه.

في حال حصلت على التفويض المناسب، يمكن لتدخّل قطر طرفا ثالثا، في سياق الوساطة متعدّدة الأطراف، أن يؤثر بشكل إيجابي على نتائج تسوية الصراع بطريقة منهجية، فمشاركتها يمكن أن تفتح المجال لمساعدة أطراف الصراع، بالتعاون والتنسيق الكامل مع الوسطاء الآخرين، في تخطي العثرات التي يمكن أن تقوّض من الحلول المتاحة في مراحل مختلفة من دورة حياة الصراع. في مثل هذا النوع من الوساطة، يتولى كل طرف مهام وأدوارا محدّدة يتم تخصيصها طوال العملية، كما تمكّن الأطراف من تقاسم الأعباء والتكلفة المرتبطة بعملية صنع السلام. عند الوصول إلى نقطة معينة من حياة عملية الوساطة، واعتمادًا على إمكانات الوسطاء، وظروف الخصوم، وسياق الصراع، تفسح عملية التعدّد للوسطاء توجيه نفوذهم بشكل فعّال ومنسّق، لحث الأطراف المتنازعة على قبول تسوية تفاوضية.

وأخيرًا، يجب أن تتم جهود الوساطة المقترحة مع الانخراط الكامل للجهات الفاعلة المحلية في السودان ودعم جهود صنع السلام التي يقوم بها الوسطاء. يوفّر انخراط الشبكات المحلية فرصة لدعم عملية السلام على نطاق شامل، وليس فقط على نطاقٍ محدود كما هي حاليا. لذا، يتطلب حل الصراع في السودان الشمولية والتفكير على المدى الطويل، فذلك يسهم في تعزيز ودعم مساعي حل الصراعات بشكلٍ أكبر.

مقالات ذات صلة