الصين والعالم بعد اجتماعات “السبع الكبرى”

سامر خير أحمد

حرير- يمتلك 10% من سكان العالم، وهم مواطنو الدول الصناعية السبع الكبرى (الولايات المتحدة، كندا، المملكة المتحدة، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، اليابان)، نحو 60% من صافي الثروة العالمية، ونحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهم اليوم يقاتلون للحفاظ على مكتسباتهم تلك في وجه احتمالات نموّ “دول الجنوب”، التي تمثل الصين نموذجهم الناهض. هل هذه فعلاً حقيقة الصراع الدائر اليوم في العالم، ويتجلّى على شكل تنافسٍ محمومٍ بين واشنطن وبكين؟

من حيث المبدأ، توافقات الحد الأدنى التي شهدتها اجتماعات المجموعة أخيرا، قبل أيام، في مدينة هيروشيما اليابانية، تشي فعلاً بأن ما يجمع الدول الصناعية السبع الكبرى أكثر مما يفرّقها، وأن ما يفرّقها فعلياً هو اختلاف وجهات نظرها تجاه مصالحها المشتركة، أكثر مما هو تسابق فيما بينها على تحقيق المصالح الخاصة، وهذا ما يمكن أن يقال عن اختلاف وجهات النظر بين فرنسا وألمانيا من جهة، والولايات المتحدة وباقي أعضاء المجموعة من جهة ثانية حول طبيعة العلاقة مع الصين، وما هو مسموح أو ممنوع فيها.

وإنما تتبدّى الاختلافات في تعامل تلك الدول الصناعية مع الصين، عن ماهية تعاملها مع “دول الجنوب” النامية الأخرى، في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، والتي يبدو من خلالها أن الدول الصناعية تتحلّى بمسؤولية دولية لمساعدة تلك الدول على النمو (بعد أن نهبت خيراتها سنين طويلة)، في أن الصين تجاوزت في نجاحاتها التنموية خطوطاً حمراء، فباتت تهدّد سيادة تلك المنظومة الدولية التي صاغتها واشنطن ليس منذ الحرب العالمية الثانية، لا.. بل منذ سبعينات القرن العشرين؛ أي منذ أن بات الاقتصاد مفتاح القوة الحقيقية في العالم، قبل القوة العسكرية، ثم راح العالم يتغيّر بتقارب الولايات المتحدة والصين، ثم انفتاح الأخيرة على العالم، وصولاً إلى كل التحوّلات الأيديولوجية التي عرفها العالم عبر الثمانينات، ثم موت الأيديولوجيا نفسها عقب الحرب الباردة.

ما تفعله الصين اليوم، بتهديدها شكل النظام العالمي القائم بزعامة الولايات المتحدة، يتجاوز كونه صعوداً لقطب عالمي جديد. إنه أمرٌ أكبر من ذلك بكثير، فهو نموذج لصعود الجنوب، وتغيير هوية اللاعبين الدوليين وثقافتهم وقيمهم، ثم فتح الباب واسعاً لدخول هؤلاء “الأقل تقدّماً” إلى التاريخ، عبر مساهمتهم في تقرير مستقبل البشرية وصياغته، بعد أن غابوا عن مثل هذه المشاركة منذ مئات السنين، انفردت خلالها “دول الشمال”، إن جاز القول، بتقرير كل شيء.

ثمّة ما هو “فلسفي” في هذا الصراع الدولي الدائر. حتى في قرارات مجموعة السبع بشأن السعي إلى تخفيف اعتمادها الاقتصادي على الصين. في الجوهر، ثمّة فوقية ما في تلك الأفكار، تودّ القول إن الدول الصناعية هي من تمنح ومن تمنع. لذا، ليس بلا مغزى أن الصين ردّت على ذلك كله بأن ذهبت خطوة إلى الأمام، لإيجاد بدائل اقتصادية لمواصلة نموّها، عبر نسج علاقات جديدة في آسيا الوسطى، والمنطقة العربية، والمحيط الهادئ، وقبلها في أفريقيا وأميركا اللاتينية، كأنما تردّ بالقول إن الدول الصناعية الكبرى ليست قدراً لا بديل له، وليست هي من يمنح أو يمنع. بل إن اختيار إيطاليا اجتماعات هيروشيما مناسبة لإعلان انسحابها من مبادرة الطريق والحزام الصينية، ليس بلا مغزى أيضاً، فمؤدّاها أن الدول الصناعية الكبرى متّحدة في مصالحها الكبرى، قبل أن تنظر إلى مكاسبها مع الصين في مجالات البنى التحتية والطرق والموانئ.

ينطبق الحال نفسه على تلك المصطلحات المستحدثة التي استعملتها اجتماعات “السبع الكبرى” بشأن الصين، عندما تحدّثت عن “الإكراه الاقتصادي” الذي تستعمله بكين تجاه من يتّخذون ضدها مواقف سياسية لا ترضاها؛ مثل لجوئها لتخفيف الاستيراد، أو تحفيف أيٍّ من علاقاتها الاقتصادية الأخرى مع دولٍ تنحاز ضدّها سياسياً، وهو أمرٌ شائع أصلاً في تعاملات الولايات المتحدة وشريكاتها مع دول العالم منذ عقود. المعنى، إذن، أن ما هو مشروع بالنسبة للغرب الذي تقوده واشنطن، ليس مشروعاً لغيرها، كالصين، بل يعتبر عملاً لا أخلاقياً مداناً. إنها، بلغةٍ أخرى، لا تستحقّ أن تكون لها شرعية مثل تلك التصرفات في علاقاتها الدولية.

عقب الاجتماعات، قال الرئيس الأميركي، جو بايدن، إنه يعتقد أن علاقات بلاده مع الصين ستتحسّن قريباً. وعلق على سؤال لأحد الصحافيين بالقول إنه يجب أن يكون ثمّة خط ساخن بين واشنطن وبكين، يسارعان من خلاله للحوار والتفاهم كلما يجدّ جديد، فضلاً عن مواصلة العمل لحل الخلافات القائمة. تلك هي باختصار سياسة العصا والجزرة التي ظلت تؤتي أكلها مع دول العالم الثالث عقوداً طويلة، والتي يظن الأميركيون أنها ستؤتي أكلها هذه المرّة أيضاً مع الصين؛ فتهدّدها واشنطن أولاً بالضغط الاقتصادي، ثم تلوّح لها بالتقارب والتفاهم. ربما يفاجأ الأميركيون هذه المرّة بردود فعل مغايرة من بكين. أليس صحيحاً، إذن، أن التغيير الجاري في العالم يتجاوز أن يكون صراعاً على القطبية بين دول كبرى وحسب؟

مقالات ذات صلة