75 عاماً من النكبة ويستمر الأمل

علي أنوزلا

حرير- خلّد الشعب الفلسطيني، ومعه أحرار العالم، الذكرى الـ75 لنكبته التاريخية، ولا أعرف هل يجب وصف النكبة بالذكرى، لأن الذكرى تنسحب على ما هو إيجابي، في حين أن الأمر هنا يتعلق بأسوأ مأساة إنسانية، وبأكبر ظلم تاريخي، ما زال مستمرا في المكان والزمان جاثما على الأرض والإنسان. وحتى وصف النكبة الذي اختاره الفلسطينيون الأوائل، لوصف مأساتهم، يدعو اليوم إلى إعادة النظر في المفهوم، لأن الفلسطينيين الذين ابتدعوه ربما فعلوا ذلك لطفا في وصف مأساتهم، ورأفة بأنفسهم وبالشعوب العربية التي كانت تعيش آنذاك تحت نير أنواع مختلفة من الاستعمار والانتداب والحماية، وأيضا رحمةً بالأجيال التي سترث تداعيات ما جرى، للتهوين عليهم من غموض المصير المجهول الذي وجدوا أنفسهم أمامه يواجهونه مثل قدرٍ محتوم.

مفهوم النكبة مرتبط بالكوارث الطبيعة، وفي علاقة بما جرى عام 1948 في فلسطين، فإن ما تعرّض له الفلسطينيون أقوى من كل الكوارث الطبيعية، لأن الطبيعة تبقى أرحم أمام الجرائم الصهيونية التي حلّت بفلسطين وشعبها وما زالت مستمرة أكثر من سبعة عقود، فالكوارث الطبيعية لا تدوم عقودا ممتدّة، ومن قلب قسوتها وعنف صدمتها تنبثق الحياة من جديد، في حين أن ما حلّ بفلسطين وشعبها هي مآس مستمرّة في الزمن من تقتيل وتهجير وطرد واعتقال واغتيال وتدمير للبيوت وتجريف للأرضي وتسميم للمياه، ومع مرور الوقت تتعاظم الجرائم وتتضاعف أعداد الضحايا وتمتد الآلام في الزمان والمكان.

تحلّ هذه الذكرى الحزينة، اليوم، في وقت تمرّ فيه المنطقة العربية بواحدة من أسوأ مراحل تاريخها الحديث، حيث تستمرّ الخلافات بين الأنظمة، وتغلق الحدود بين دولها، وتشتعل الحروب الأهلية بين سكّان الدولة الواحدة، ويتراجع منسوب الديمقراطية وهامش الحريات في بلدانها، وتنتصر الثورات المضادّة المناصرة للاستبداد والحامية للفساد، ويتمدّد خطاب التطبيع، ويجد له مراتع في أكثر من أرضٍ عربية، ينخر المؤسّسات ويؤدلج العقول الحائرة. لذلك كان طبيعيا أن تمرّ هذه الذكرى في جو من الصمت العربي المريب وكأنه تواطؤ مع الجلاد لإفساح مزيد من الوقت أمامه لإتمام جرائمه!

وفي المقابل، وبالرغم من كل الانتكاسات والهزائم، ما زال صوت المقاومة الأعلى، وخيارها هو الأصوب، ويكفي أن ننظر إلى ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي قطاع غزة وفي فلسطين الداخل، ليتأكّد من ما زالت تراوده ذرّة من الشك في قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة قدره بنفسه بثقة كبيرة في النفس، متجاوزا صدمة النكبة ومخلفاتها، متحدّيا كل القوى التي صنعتها ودعمتها وحمتها طوال السنوات والعقود الماضية.

ليست النكبة كلها سيئات أو سلبيات، فمن رحمها ولدت المقاومة الفلسطينية الباسلة التي ما زالت شعلتها مستمرّة متأجّجة تفاجئ العدو وتبهر العالم في كل محطات اختبار قوتها بمدى صلابتها وصمودها وإصرارها على الاستمرار حتى النصر. وعلى أدبيّات النكبة، تتلمذت وتخرّجت أفواج من أجيال الغضب العربي، تدافع عن شرف أوطانها وحرّية شعوبها، لأن أدبيات النكبة هي التي علّمت أحرار العرب بأن تحرير فلسطين يبدأ من تحرير بلدانهم وشعوبهم.

كانت صدمة النكبة قوية ومدوّية تردّد صداها في كل بقاع الأرض العربية، وأحدثت حالة من اليأس العام المشوب بالغضب، بسبب حالة العجز العربي الرسمي آنذاك، وأجّجت مشاعر الحاجة إلى الثورة من أجل التحرّر والتغيير. وحتى بعد مرور أكثر من سبعة عقود ما زالت حالة الغضب تلك هي التي تغذّي كل الانتفاضات والثورات العربية، بل وحتى الاحتجاجات اليومية في المنطقة العربية التي تكاد لا تخلو مواكبها ومسيراتها من الأعلام الفلسطينية ومن شعارات التضامن مع الشعب الفلسطيني والتنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي وشجب كل أنواع التطبيع معه من أنظمة عربية كان ينتظر منها السند أو على الأقل الحياد، وذلك أضعف الإيمان، أصبحت، اليوم، تساوم بأقدس قضية عربية وإنسانية من أجل مآرب خاصة، ورخيصة!

لم يكن جيل النكبة فلسطينيا وعربيا انهزاميا بقدر ما كان قدريا، والدليل استمرار الكفاح الفلسطيني بدون توقف، رغم مسيرات الشهداء الطويلة، والتضحيات الكبيرة التي يقدّمها كل يوم في مواجهة واحد من أبشع أنواع الاستعمار، يجمع بين الاحتلال والاستيطان والعنصرية والتطهير العرقي باسم القومية والدين. ويكفي أن نعود إلى ما جرى في المنطقة العربية إبّان ثورات شعوبها، لنلاحظ أن ما كان يوحّد شعاراتها من الخليج إلى المحيط هي القضية الفلسطينية وشعاراتها التي تختزل في عمقها قضية كل الشعوب التوّاقة إلى الحرية والتحرّر.

قد تبدو 75 سنة زمنا طويلا، وهو كذلك مقارنة مع عمر الإنسان، لكنه بحساب الزمن اللانهائي للشعوب والأوطان فإنه مهما طال يبقى مجرّد صفحة سوداء في تاريخ فلسطين والفلسطينيين، ما داموا مستمرّين بالتشبث بقضيتهم وبالدفاع عن أرضهم، فالاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي ليس الأول في التاريخ ولن يكون الأخير، وقبله عاشت الجزائر 130 سنة تحت أوسخ وأقذر استعمار مجرم وقاتل، تطلّب طرده وتطهر الأرض منه دماء مليون ونصف مليون شهيد لينتهي به المطاف في مزبلة التاريخ، وكذلك سيكون مآل الاحتلال الصهيوني لفلسطين التاريخية، فكلما طال الليل أصبح الصبح قريبا.

مقالات ذات صلة