التسريبات الأميركية وخطر “الجماعات المغلقة”

ممدوح الشيخ

حرير- دخل جاك دوغلاس تيشيرا التاريخ من باب واسع، عندما شغلت تسريباتُه العالم، لكن تيشيرا ليس اختراقًا حققه جهاز استخبارات معادٍ بل ثغرة كشفت عنها (للمرّة الأولى في التاريخ الأميركي) صلة المسرّب بمجموعة مغلقة في غرفة دردشةٍ على إحدى منصّات الإنترنت، وهو نمط جديد من “المجتمعات المغلقة” التي تطرح أسئلة شديدة الخطورة بشأن “الولاء الأعلى” للمواطن “ما بعد الحداثي”. وتعبير “الولاء الأعلى” ورد في عنوان كتاب أثار عام 2018 ضجّة كبيرة وكان شهادة سياسية ذات أهمية استثائية بتوقيع المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، جيمس كومي، “ولاء أعلى: الحقائق والكذب والقيادة”، والذي اعتبر أن رئاسة ترامب هي “حريق الغابات” الذي يلحق ضررًا جسيمًا بمعايير البلاد وتقاليدها، كما أنه اعتبر ترامب “غير مناسبٍ أخلاقيًا” لتولي المنصب لتجاهله القيم المؤسسية الأميركية.

وفي مرحلةٍ مبكّرةٍ من تاريخها، كانت أميركا، على عكس أوروبا، ترفض “السرّية” في العمل السياسي، بينما كان للماسونية، أكثر الجماعات السرّية شهرةً، دور في بناء أوروبا الحديثة تناولته مصادر التاريخ الأوروبي الحديث من دون مواربة، وبخاصة في فرنسا وإيطاليا. في المقابل، كان أول “حزب ثالث” ينشأ في أميركا إلى جانب الحزبين: الجمهوري والديمقراطي، حزب معادٍ للماسونية (1826 – 1843). وعندما نشر عالم الاجتماع الألماني المرموق جورج زيميل ورقته المؤسّسة “علم اجتماع السرية” في المجلة الأميركية لعلم الاجتماع (يناير/ كانون الثاني 1906)، وضع لبنة مهمة في صرح التقاليد السياسية الأميركية: معاداة السرّية. وقد اعتبر السرّية، بحد ذاتها، شرّا. ورغم أن مُنظِّر “المجتمع المفتوح” كارل بوبر ألماني الجنسية، إلا أن الثقافة الأنعلوسكسونية احتفت بفكره أكثر من نظيرتها الأوروبية، حتى إن أحد أشهر الفلاسفة البريطانيين في القرن العشرين، برتراند راسل، وصفه بأنه “عملٌ على أعلى درجةٍ من الأهمية، وينبغي أن يُقرأ على نطاقٍ واسعٍ”. وفي روايته التي أحدثت ضجّة عالمية “شيفرة دافنشي” ( 2003)، وضع الروائي البريطاني، دان براون، الصراعات بين المحافل السرّية الأوروبية في دائرة الضوء في عمل هو مزيج من السرد والتأريخ.

وفي عالم ما بعد الحداثة المتشظّي، يبدو أننا أمام نمط جديد من “الجماعات شبه السرّية” المغلقة التي تستهوي أشخاصًا ذوي سماتٍ نفسيةٍ محدّدة، فالمسرّب، في حدود ما هو منشور، كان معنيًا، قبل كل شيء، بمكانته في مجتمع صغير، هو غرفة دردشة في موقع تواصل اجتماعي، ولم يكن مدفوعًا شأن آخرين في التاريخ الاستخباراتي بانتماءٍ أيديولوجي أو ديني (مثل كيم فيلبي أو جورج بليك أو خماسي كيمبردج أو جوناثان بولارد)، بل كان مشغولًا بـ “فقاعته الافتراضية” ومكانته فيها!

وإحدى سمات التنظيمات الإرهابية الأكثر تطرّفًا أن توفر لنمط من أعضائها هذا العالم الفردوسي الوهمي الذي يمنحهم إحساسًا عميقًا بتحقيق الذات. وفي تاريخ المشرق العربي الحديث ثقبٌ أسود، تمثله الأدوار الكبيرة التي لعبته جماعاتٌ مغلقةٌ صغيرة، لم يزل الجانب الأكبر منها مجهولًا. وفي العام 2004، عندما نشر المؤرّخ اللبناني، شفيق جحا، كتابه “الحركة العربية السرّية، جماعة الكتاب الأحمر، 1935 – 1945″، كشف للمرّة الأولى أن لهذه الجماعة أدوارا سياسية كبيرة في دول الهلال الخصيب. و”جماعة الكتاب الأحمر” ليست الوحيدة، ومثيلاتها تتناثر أخبارها سير ذاتية وشهادات شخصية، لكنها مصدر مهم من مصادر التاريخ العربي الحديث.

والسؤال الذي تطرحه واقعة التسريبات في أميركا وخارجها، قضية الولاءات الفرعية التي يجعلها أصحابها “ولاءً أعلى”، وهي بذلك تصبح المرجع الوحيد لمشروعية التنصّل من المسؤوليات الأخلاقية للمواطنة، ولتبرير تخلّي الفرد عن أمانته في ما يخص الولاء الوطني والاحترام المتوقع لقواعد “النظام العام”. والانصياع للنظام العام والقناعة بمشروعيته أحد أهم مرتكزات الاجتماع السياسي المعاصر. وفي كتابها: “علم نفس وادي السيليكون” (صدر بالإنكليزية 2020، وصدرت ترجمتي له في 2023)، ذكرت الباحثة البريطانية كاتي كوك أن من مخاطر “السوشيال ميديا” أنها تتيح لبعضهم العيش في فقّاعات مع من يشبهونهم فقط، حيث يستطيعون نفي “الآخر” بكبسة زر من خلال “الحظر”.

هل كشفت تفاصيل التسريبات الأميركية عن احتمال أن يمتلئ العالم بفقّاعات صغيرة منفصلة يبني كلٌّ منها لأعضائه “سياقًا عامًا” أخلاقيًا منفصلًا عن “السياق العام” الحقيقي؟! أحسب أن هذا سؤال أمني/ سياسي/ معرفي، مهم؟

 

مقالات ذات صلة