
غزة ومعركة النظام العالمي
بقلم الاذاعي الكاتب/شريف عبد الوهاب رئيس الشعبة العامة للاذاعيين العرب
في قلب الشرق الأوسط، وفي بقعة جغرافية صغيرة محاصرة منذ سنوات، تُدار اليوم واحدة من أخطر المعارك التي قد تحدد ملامح النظام العالمي لعقود مقبلة. غزة، التي لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومترًا مربعًا، تحولت إلى مختبر سياسي وعسكري وإعلامي يكشف موازين القوى بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والقوى الصاعدة التي تبحث عن موقع جديد في الخريطة الدولية من جهة أخرى.
هذه الحرب لم تعد مجرد مواجهة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، بل أصبحت عنوانًا لصراع عالمي أوسع: هل سيبقى العالم تحت هيمنة القطب الأمريكي الواحد، أم أن زمن التعددية القطبية قد بدأ يفرض نفسه من غزة؟
غزة: الساحة الصغيرة والرمزية الكبيرة
قد يظن البعض أن الحديث عن غزة وربطها بمستقبل النظام العالمي نوع من المبالغة. غير أن قراءة الأحداث بدقة تكشف أن ما يجري في القطاع الصغير يحمل أبعادًا تتجاوز حدود فلسطين. فإسرائيل، التي تمثل رأس الحربة الأمريكية في المنطقة، تخوض حربها تحت غطاء سياسي وعسكري كامل من واشنطن. وفي المقابل، يجد الفلسطينيون تعاطفًا شعبيًا عالميًا ودعمًا سياسيًا متفاوتًا من قوى مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران.
هكذا تتحول غزة إلى مرآة: من خلالها نرى ضعف الأمم المتحدة أمام الفيتو الأمريكي، ونرى انحياز الغرب الصارخ، ونرى أيضًا صعود أصوات جديدة تتحدّى منطق الهيمنة الأحادية.
أمريكا وإسرائيل: أزمة صورة وهيمنة
الولايات المتحدة، باعتبارها الداعم الأول لإسرائيل، تخوض في غزة معركة أكبر من مجرد حرب بالوكالة. إنها معركة الحفاظ على صورتها كقوة عظمى لا تُقهر. غير أن مشاهد المجازر اليومية ضد المدنيين الفلسطينيين تقوّض هذه الصورة، وتُظهر واشنطن كقوة منحازة تدعم الاحتلال على حساب حقوق الإنسان.
كل صاروخ يسقط على غزة، وكل مبنى ينهار فوق سكانه، ليس فقط جريمة حرب، بل أيضًا رصاصة تُطلق على مصداقية أمريكا أمام شعوب العالم. وإذا كانت واشنطن تراهن على أن التفوق العسكري الإسرائيلي سيحسم المعركة سريعًا، فإن صمود المقاومة الفلسطينية أظهر حدود القوة الإسرائيلية، وبالتالي حدود الدعم الأمريكي نفسه.
الصين ورسالة “السلام أو الحرب”
في المقابل، جاءت كلمات الرئيس الصيني شي جين بينغ لتضع بُعدًا جديدًا للصراع. في خطاباته الأخيرة، شدد على أن العالم يقف أمام خيارين: “السلام أو الحرب”. وهي رسالة موجهة ليس فقط إلى الداخل الصيني، بل إلى كل الشعوب المستضعفة، وفي مقدمتها شعوب العالم العربي.
الصين تدرك أن الحرب على غزة فضحت اختلال موازين العدالة الدولية. لذلك تسعى إلى تقديم نفسها كقوة بديلة، لا تقوم على الاحتلال أو الاستعلاء، بل على التعاون والاحترام المتبادل. ومن هنا، تتحول غزة إلى منصة تُظهر كيف يمكن للقوى الصاعدة أن تكسب أرضًا سياسية وأخلاقية في مواجهة الغرب.
المقاومة كرمز عالمي
المقاومة الفلسطينية، بصمودها في وجه آلة عسكرية ضخمة، اكتسبت بُعدًا رمزيًا عالميًا. فهي لم تعد مجرد حركة محلية، بل باتت رمزًا لكل شعب يرفض الاستسلام أمام القوة. هذا الرمز يتردد صداه في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، حيث ترى الشعوب أن ما يحدث في غزة يشبه نضالها ضد الاستعمار أو التبعية.
وهذا البُعد الرمزي يُضعف مكانة إسرائيل عالميًا، ويضع واشنطن في مأزق أخلاقي، ويمنح القوى الصاعدة فرصة للقول إن النظام الدولي الحالي فقد شرعيته.
العرب والفرصة الضائعة… أم الممكنة؟
يبقى السؤال الجوهري: أين العرب من كل ذلك؟
التاريخ يخبرنا أن العرب أضاعوا فرصًا عديدة لامتلاك كلمة موحدة. غير أن الحرب في غزة قد تفتح بابًا جديدًا إذا قررت الدول العربية أن تتجاوز خلافاتها وتطرح مبادرة جادة للسلام العادل، مستندة إلى الدعم الشعبي الجارف للقضية الفلسطينية وإلى تغير موازين القوى عالميًا.
فالصين وروسيا، ومعهما قوى إقليمية أخرى، تلوّح باستعدادها لتبني مواقف أكثر جرأة دفاعًا عن الفلسطينيين. وهذا يعني أن العرب، إذا توحدوا، قد يجدون ظهيرًا دوليًا يعزز موقفهم في مواجهة الانحياز الأمريكي.
معركة النظام العالمي
الحرب في غزة تكشف بوضوح أن النظام الدولي يمرّ بمرحلة انتقالية. لم تعد أمريكا قادرة على فرض إرادتها وحدها، ولم يعد الغرب هو المرجع الأوحد في القيم والسياسة. في المقابل، القوى الصاعدة لم تكتمل قوتها بعد، لكنها تستثمر في لحظات كهذه لتأكيد حضورها.
إذن، غزة ليست مجرد حرب بين إسرائيل والفلسطينيين، بل هي اختبار للنظام العالمي:
إذا نجحت إسرائيل في فرض إرادتها بدعم أمريكي مطلق، فقد يطول عمر الهيمنة الأحادية.
وإذا فشلت، فإن ذلك سيُسرّع من انهيار هذه الهيمنة، ويعجّل بظهور نظام متعدد الأقطاب، تكون فيه كلمة للشعوب المستضعفة، ومن بينها العرب.
الخاتمه
من يتساءل: هل من يحسم غزة يحكم العالم؟ الإجابة الدقيقة هي: غزة لا تحدد من يحكم العالم، لكنها تحدد شكل العالم.
هي المعركة التي تختبر صدق القيم الغربية، وتكشف حدود القوة الأمريكية، وتفتح الباب أمام الصين وروسيا لتقديم بدائل جديدة.
وبين هذا وذاك، يبقى للعرب فرصة تاريخية: أن يحولوا دماء غزة وآلامها إلى بداية جديدة لدور فاعل في العالم، وأن يكونوا طرفًا في صياغة نظام دولي أكثر عدلًا وإنسانية.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل هي رمز عالمي، وامتحان للنظام الدولي، وبوابة محتملة لسلام عادل إن اختار العرب أن يكون لهم كلمة.