في مؤشّرات التهدئة بين أميركا والصين

سامر خير أحمد

حرير- “تحدّث بهدوء، واحمل عصا غليظة”. تلك عبارة الرئيس الأميركي الأسبق، ثيودور روزفلت، التي استعملها رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، مارك ميلي، في حديث صحافي قبل أيام لوصف ما يجب أن يكون عليه سلوك بلاده في المرحلة المقبلة، بعد شهور من التوتر العسكري بين الولايات المتحدة والصين، شهد أكبر حشد عسكري أميركي في غرب المحيط الهادئ، بالتنسيق مع حلفاء واشنطن في آسيا وأوقيانوسيا، خصوصاً اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، قابلتها منارواتٌ عسكرية صينية بالذخيرة الحية في مضيق تايوان.

شرح ميلي وجهة نظره بالقول إنه لا يعتقد أن بلاده والصين تقفان على شفا حرب حالياً، رغم أن حادثاً ما يمكن أن يقع، فيؤدّي إلى تصعيدٍ “غير متحكّم فيه”، كذلك لا يعتقد أن بكين ستغزو تايوان وتضمّها إلى جمهورية الصين الشعبية بالقوة العسكرية، لكن بلاده يجب أن تواصل دعم تايوان عسكرياً كي يعرف الرئيس الصيني أن تكلفة مثل تلك الخطوة ستتجاوز المنفعة الممكنة.

اللافت في تصريحات الجنرال الأميركي ليس مضمونها بحد ذاته، وإنما أنها صدرت من قائد عسكري، إذ على مر الشهور الفائتة من التوتر العسكري، التي تلت نحو عام ونصف العام من التصعيد السياسي بين واشنطن وبكين على خلفية الاستراتيجية الأمنية تجاه الصين التي اتبعتها إدارة الرئيس جو بايدن منذ وصولها إلى البيت الأبيض مطلع عام 2021، ظلت التصريحات العسكرية والسياسية بين الجانبين تسير في خطّين متوازيين لا يتقاطعان: فالتصريحات السياسية بقيت تتراوح بين مدّ وجزر، فيما كانت التصريحات العسكرية الصادرة منهما توحي كأن الحرب ستقع غداً.

هكذا، يعدّ تصريح الجنرال ميلي أول تصريح عسكري غير حادّ ولا هجومي يطلقه قائد عسكري من أحد الطرفين تجاه الآخر، وهذا تحوّلٌ مهم في الصراع بينهما منذ أكثر من سنتين، بينما ما تزال التصريحات الصينية الهادئة مقصورةً على السياسيين الذين يعلنون نبذ سياسة الأحلاف والتكتلات وعقلية الحرب الباردة، في وقتٍ يطلق فيه العسكريون الصينيون تصريحاتٍ هجومية كلما أتيح لهم، تتحدّث عن استعداد بلادهم للحرب، والدفاع عن مصالحها وحقوقها “التاريخية”.

ما تجدر ملاحظته في هذا الصراع الدولي الكبير أن الولايات المتحدة اعتادت شرح مواقفها من خلال تصريحات قادتها السياسيين والعسكريين، فترافقت مساعي إدارة بايدن إلى إقامة حشد دولي يعزل الصين مع تصريحات حادة تجاه سلوك بكين السياسي والاقتصادي، ونواياها المستقبلية التي تهدد النظام العالمي القائم. أما الصين فإن مواقفها تشرحها تصرفاتها السياسية، وطبيعة اتصالاتها وعلاقاتها مع مختلف الأطراف، بينما تظلّ تصريحات قادتها السياسيين والعسكريين مبهمة وفضفاضة، فضلاً عن أنها تتسم بالمجاملات تجاه الأصدقاء، وبالنمطية تجاه غيرهم، بحيث لا يمكن، في المحصلة، حملها على محمل الجد.

وعلى هذا، إذا كانت تصريحات الجنرال الأميركي مارك ميلي تؤشّر إلى نياتٍ للتهدئة تجاه الصين في المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد أن أصبحت الساحة العسكرية في غرب المحيط الهادئ جاهزة تماماً للتدخل ضد الجيش الصيني في أي لحظة إن لزم الأمر، وباتت “الأيدي على الزناد” من الناحية الفعلية، فإن مؤشّرات التهدئة من الصين تتبدّى في سلوكها السياسي الذي يجتهد في القول إنها وروسيا ليستا حليفتين بالمعنى التقليدي للكلمة، الذي يجعلهما معسكراً يواجه الولايات المتحدة وحلفاءها على طريقة الحرب الباردة، بل هما شريكتان من الناحية الاقتصادية، وتريد الصين إحلال السلام في شرقي أوروبا من خلال مبادرتها لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا.

لا ريب أن ما يجري في العلن بين واشنطن وبكين ليس إلا قمة جبل ما يجري في قنوات التواصل غير المعلنة، الساعية إلى تجنّب الحرب وتهدئة الصراع، في وقتٍ يعتقد فيه كل طرفٍ أنه اصطنع على أرض الواقع ما يكفي من تغييراتٍ تجعله قادراً على كبح جماح عدوانية الطرف الآخر؛ فالولايات المتحدة تعتقد أنها وضعت الصين تحت التهديد العسكري، وباتت تُحاصر طموحاتها الاقتصادية من خلال التهديد بعزلها سياسياً، وملاحقتها في مناطق نفوذها الجديدة مثل أفريقيا التي عملت واشنطن في الشهور الأخيرة على إقناع قادتها بالمخاطر الأمنية التي تنطوي عليها علاقاتها الاقتصادية مع بكين. أما الصين فتعتقد أنها فرضت نمطاً جديداً من العلاقات الدولية يكون لها فيه حضور واسع غير مسبوق منذ بدء مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أو بتعبير آخر أنها فرضت على العالم إقفال مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي تميّزت بالقطبية الأميركية المتفرّدة، ما أدخل الولايات المتحدة وحلفاءها والعالم كله بالضرورة في مرحلةٍ جديدة، ملامحها آخذةٌ في التشكّل نحو مشاركة دولية أوسع للصين والاتحاد الأوروبي وربما غيرهما، وإن لم تتّخذ عنواناً واضحاً بعد.

والحال أن كل واحد من الطرفين يريد التهدئة الآن، لأنه واثق من قدرته على المضي في خططه خلال المستقبل القريب، بفضل “الأمر الواقع” الجديد: واشنطن تثق بأنها باتت قادرةً على إقناع بكين بكلفة خروجها على النظام العالمي الذي استفادت منه في مشروعها الاقتصادي والتنموي نحو ثلاثة عقود، وأنها من ثم سوف تستسلم لأفضلية العودة إلى حضن النظام الذي تقوده أميركا، وبكين تثق بأنها ألقت حجراً في مياه القواعد التي أرستها الولايات المتحدة منذ تفكّك الاتحاد السوفييتي، بفضل شراكاتها الاقتصادية مع العالم من خلال مبادرة الطريق والحزام، وشراكتها التجارية مع حلفاء تقليديين لواشنطن، وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي، كذلك استفادتها من ظروف الحرب في شرق أوروبا لتعزيز علاقتها الاقتصادية مع روسيا بشكلٍ يساعدها على مواصلة النمو، وهذا كله يجعل عودة الزمن إلى الوراء غير ممكنة أبداً.

مقالات ذات صلة