إسرائيل ليست استثناء في سياق التاريخ

أسامة أبو ارشيد

حرير- هي حالة من التوهان والتمزّق تعيشها إسرائيل على وقع المظاهرات الحاشدة على مدى أكثر من شهرين، احتجاجاً على خطط الحكومة اليمينية المتطرّفة للمسِّ بصلاحيات القضاء، ونقض دوره فرعا ثالثا مستقلا في هرم السلطة الإسرائيلية، جنباً إلى جنب مع السلطتين التشريعية والتنفيذية. لا يهمنا هنا الاستغراق في خلفيات حكومة نتنياهو وحساباتها لما تسمّيه “إصلاح القضاء”، ويكفينا أن نُذَكِّرَ بأن نتنياهو نفسه، وبعض وزراء حكومته، متهمون بقضايا فساد تهدّد مستقبلهم السياسي، بل وقد ينتهي بهم الأمر في السجن. اللافت أن إسرائيل التي تذرّعت دوماً بأنها دولة ديمقراطية في محيط من الديكتاتوريات العربية في محاولةٍ لتبييض صفحة عدوانها واحتلالها تجد نفسها اليوم أمام مرآةٍ كاشفةٍ فاضحة: الوحش البغيض الذي سوّغ لنفسه عقودا الاعتداء على الفلسطينيين والعرب تحلّل من قيوده الداخلية، وها هو اليوم ينهش في نفسه وأبنائه. ليس هذا فحسب، بل تحذّر شخصيات إسرائيلية رفيعة، سياسية وأمنية وعسكرية وإعلامية واقتصادية، بكل وضوح، من احتمالات انهيار داخلي، بل وربما حرب أهلية يهودية – يهودية، وهناك من يدعو إلى مقاومة إسرائيلية يهودية شعبية، وآخرون يحضّون على تمرّد جنود الاحتياط. وذلك كله بذريعة الحفاظ على الهوية الديمقراطية العلمانية المزعومة للدولة العبرية. هم الناس أنفسهم الذين لا يرون العود في أعينهم، عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن نظام الإبادة والأبارتهايد الذي رسّخوه ضد الشعب الفلسطيني.

رسّخوه ضد الشعب الفلسطيني.

تقف إسرائيل على عتبة الاحتفال بما تزعمه عيد استقلالها الخامس والسبعين، أو قل للدقّة، ذكرى النكبة الوحشية المأساوية التي أوقعتها بحق الشعب الفلسطيني، وقيامها على كثير من أنقاضه. بالنسبة للفلسطينيين والعرب الذين خبروا الجرائم الإسرائيلية، لا فرق بين يساري ويميني، وعلماني ومتدين، في سدّة الحكم في إسرائيل. كلهم مجرمون، وكلهم لا يقيمون للقيم والمعايير الإنسانية وزناً في تعاملهم مع الآخرين. الجديد اليوم أن الأيديولوجيا الصهيونية العنصرية المتخمة بالتوحّش والإجرام فلتت ألسنة لهبها وشبَّت في داخل الدار. والنكتة السمجة هي هجوم رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية، القاضية إيستر حايوت، على مشروع حكومة نتنياهو للعبث بالنظام القضائي قائلة: “إنه مصمم لتوجيه ضربة قاتلة لاستقلال القضاء وإسكاته. وفي حال تنفيذ ذلك، فإنه سيتم تخليد الذكرى الخامسة والسبعين لاستقلال إسرائيل على أنها العام الذي تعرّضت فيه الهوية الديمقراطية للبلاد لضربة قاتلة”.

حايوت هذه هي رئيسة أعلى سلطة قضائية في دولة الأبارتهايد الإسرائيلي، وهي المحكمة التي لا تقرّ بـ”الهوية الديمقراطية” لإسرائيل عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين وحقوقهم. هي شهادة حيَّة على العنصرية الصهيونية البغيضة التي يوحي ظاهرُها بأنها لا تعترف إلا باليهود بشراً ومواطنين، قبل أن يأتي نتنياهو وحكومة المجانين التي شكّلها ويزيل القناع الزائف عن وجه تلك الأيديولوجيا العنصرية التي تذهب اليوم إلى أبعد من مجرّد التمييز بين اليهود حسب اللون والعرق، ولعل في محنة يهود الفلاشا الإثيوبيين ما يغني عن كثير تفصيل. دع عنك حقوق الفلسطينيين. لم تنتفض حايوت، ولا الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، ولا رؤساء الحكومات السابقون، يئير لبيد ونفتالي بينت وإيهود باراك، ولا مديرا الموساد الأسبقان، إفرايم هاليفي وتامير باردو، وغيرهم كثيرون من الشخصيات النافذة في المجتمع الإسرائيلي، على التهميش الممنهج والعنصرية الفجّة والقمع الوحشي لليهود الفلاشا السود. ولكن عندما وصل الأمر إلى المسِّ بتوازنات البنية الصلبة للحركة الصهيونية، ضجَّ الفضاء فجأة بالحديث عن احتمالات الانهيار والحرب الأهلية والخراب والتمرّد.

من المفارقات الساخرة أن نتنياهو يسير على خطى حليفه الأميركي الوثيق سابقاً، قبل أن يطعنه في الظهر، كما اتهمه دونالد ترامب، بعد خسارته الانتخابات الرئاسية. يتهم مقرّبون من نتنياهو إدارة جو بايدن الديمقراطية بتمويل الاحتجاجات ضد حكومته، في تلميح واضح إلى أن إدارة بايدن غير راضية عن حكومة إسرائيلية يمينية. ليس هذا فحسب، هذا يئير، ابن نتنياهو، يصف المتظاهرين بالإرهابيين والنازيين، ويتهم الشرطة الإسرائيلية وجهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك)، بالمشاركة في انقلاب ضد والده. إنها استعاراتٌ مباشرة من القاموس السياسي لدونالد ترامب وأبنائه وحلفائه، عندما رفض الإقرار بخسارة الانتخابات الرئاسية أواخر عام 2020، وحاول الانقلاب على النظام الدستوري الأميركي.

لا يعني ما سبق أن الدولة العبرية على وشك الانهيار فعلاً، لكن لا يمكن التقليل أيضاً من حجم التشققات والتصدّعات في جدار الأيديولوجيا الصهيونية العنصرية القائمة على الإلغاء والتزييف. لا تزال إسرائيل دولة قوية عسكرياً واقتصادياً، وهي تتمتع بشبكة دعم غربي ستعمل على إنقاذها من نفسها ومن حماقات بعض أبنائها. ومع ذلك، تبدأ المشاريع الكبرى القوية، سواء على مستوى الإمبراطوريات أم الدول أم الجماعات أم الأفراد، بالتآكل أولاً من داخلها، قبل أن تتضافر معها وطأة الضغوط الخارجية لإطاحتها. كما الولايات المتحدة، وكما إمبراطوريات سبقت، بما فيها إمبراطوريات ليست بعيدةَ عهدٍ عنَّا، كالاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى، إسرائيل ليست عصية على الانهيار بفعل نخر بعض أبنائها في أصل جذعها، والضربات الخارجية عليه. تُرى هل يفهم بعض الفلسطينيين والعرب الرسالة، أم سيمضون في تواطئهم البغيض على الذات؟

 

مقالات ذات صلة