عن تزايد العمليات الفلسطينية الفردية
راتب شعبو
حرير- تتزايد العمليات التي يقوم بها فلسطينيون أفراد ضد إسرائيليين بشتّى السبل والإمكانات الفردية المتاحة، من السلاح الناري إلى السلاح الأبيض إلى الدهس. وتستهدف هذه العمليات إسرائيليين من الجيش أو الشرطة أو من المدنيين. من الواضح أنه، في المجمل، لا يوجد خط أحمر لدى المنفّذين الفلسطينيين في استهدافاتهم. جديد هذه العمليات العملية التي نفذها صبي فلسطيني (13 سنة) بسلاحٍ ناري، أوقعت جريحيْن إسرائيليين، بعد يوم من عملية نفذها شاب فلسطيني بمسدّس أوقعت سبعة قتلى إسرائيليين وجرحت عدداً آخر. ينتهي المنفّذ عادة مقتولاً بالرصاص الإسرائيلي، ما يجعل هذه العمليات شبيهةً بعمليات انتحارية يدلّ تزايدها على أزمة إسرائيلية أكثر مما هي فلسطينية.
تشير هذه الظاهرة إلى الصعوبات التي تواجهها التشكيلات العنفية أو شبه العسكرية الفلسطينية المنظّمة، في الوصول إلى العمق الإسرائيلي لتنفيذ عملياتها. هذا مما لا يصعب فهمُه، وحتى توقعه، ذلك لأن هذه التشكيلات تجد نفسها مع الوقت أسيرة بنيةٍ عسكريةٍ كلاسيكيةٍ تشبه الجيوش النظامية، وتخوض حروباً تشبه حرب الجيوش، وتجد نفسها، والحال هذه، عاجزةً بالكامل عن مواجهة الجيش الإسرائيلي المتفوّق بما لا يُقاس، على كل المستويات. أي إن هذه التشكيلات تنجرّ أكثر فأكثر إلى الميدان الذي يتفوّق فيه عدوها، ويصبح النصر الذي تتغنّى به هو مجرّد بقائها على قيد الحياة، أي مجرّد فشل الجيش الإسرائيلي في تحطيمها. كما أن التشكيلات العسكرية الفلسطينية تحتاج دعما ماليا وتقنيا كبيرا وتصبح، نتيجة ذلك، خاضعةً لمصالح الداعمين وسياساتهم، ومعرّضة للاختراقات الأمنية، هذا فضلاً عن مشكلات الصراعات البينية بين التشكيلات، وما يترتب عليها من حساباتٍ مستقلة عن، وأحياناً متعارضة مع، مقاومة الاحتلال.
لا يهم أن تتبنّى جهة سياسية أو عسكرية هذه العملية أو تلك من العمليات الفردية، المهم أن هذه العمليات لا تحتاج سوى إلى فردٍ يضع روحه على كفّه مقابل أن يسبّب الأذى للمعتدي، أي أذىً كان. يتزايد هؤلاء الأفراد، ومن المنطقيّ أن يتزايدوا في ظل التفوّق الإسرائيلي الكاسح، والسياسات الإسرائيلية التمييزية التي تميل أكثر فأكثر إلى العنصرية الصريحة وتطرد الفلسطينيين أكثر فأكثر إلى الهامش.
المفارقة التي يمكن ملاحظتها أن التنظيمات شتّتت الشعب الفلسطيني، ومهّدت للصراعات الداخلية والانقسام، في حين تعبر العمليات الفردية التي بدأت تزداد منذ 2014، كما تقول التقارير، عن مقاومةٍ قاعديةٍ، هي مقاومةٌ لا تتغذّى بالسياسة، بل بروح شعبٍ مظلوم بظلم مستمر ومتفاقم.
يخطئ من يعتقد أن زيادة القمع وزيادة التحصينات يمكن أن تحلّ مشكلة هذا النوع من المقاومة الفردية. قد تجد هذه التسمية من يعترض عليها، ولكننا نسمّيها مقاومةً لأنها تعبير عن رفض واحتجاج على الواقع الذي يفرضه العالم، وليس فقط إسرائيل، على الفلسطينيين، بازدراء للعقل والأخلاق والإنسانية، وعلى الضد أيضاً من القوانين الدولية. من غير الممكن لشعبٍ أن يستسلم لظلمٍ صريح وفاجر، طالما يمكنه أن يقاوم. حين تفشل السياسة (اتفاقات أوسلو) ويفشل التنسيق الأمني، وحين تفشل المقاومة المسلحة وتتحوّل بيئة المقاومة إلى صراعات سيطرة بين الفلسطينيين، سيجد الفلسطينيون، شعبا وأفرادا، وسائل بديلة، إن لم تكن هذه الوسائل قادرةً على تحرير الأرض، فهي قادرةٌ على تنغيص حياة المحتل. ولا يعني هذا أننا نرحب بقتل مدنيين إسرائيليين، إننا لا نرحب بهذا بأي شكل. على العكس، ندينه ونصدر في قولنا عن تضامن فعلي مع المدنيين في كل مكان، لأنهم عزّل، وعن تضامن فعلي أيضاً مع العسكريين الواقعين ضحية سياسات إسرائيلية عدوانية ستجد، مهما سار بها الطريق، أن وجهها إلى الحائط.
لا يغيب عن الإسرائيليين، ولا شك، أن المشكلة الأصلية لإسرائيل هي في مجرّد وجود الفلسطينيين، لأن مجرّد وجودهم يطرح التحدّي والسؤال عن وجود إسرائيل الحالية كما هي عليه من توسّع وتمييز. يفترض بنا ألا نطابق بين إسرائيل الحالية أو الفعلية، أي التي تتمدّد وتقيد حركة الفلسطينيين وأنشطتهم وتصادر أملاكهم وتهينهم على المعابر وتتحكّم بحياتهم … إلخ، وبين إسرائيل كما هي في الأمم المتحدة، أو حتى كما هي قبل 1967 (رغم كل التجاوز الذي تم بين عامي 1948 و1967). ما يحاوله العدوانيون من الإسرائيليين هو المطابقة بين هاتين الإسرائيليتين، بين إسرائيل “الشرعية” كما هي في الأمم المتحدة وإسرائيل الحالية التي تبتلع حقوق الفلسطينيين يومياً. والجسر الذي يريدونه أن يربط بينهما يقوم على دعامتين، الأمن القومي الإسرائيلي ومحاربة الإرهاب، غير أن هذا الجسر، مهما جرى تعزيزُه من القوى الكبرى في عالمنا، لا يمكنه أن يطابق بين إسرائيل هذه وتلك، إلا إذا تمكّن العالم من إقناع الفلسطينيين بأن إسرائيل الحالية لم تستول على أراضيهم وتسلب حقوقهم التي يُفترض أنها مُصونة دولياً.
ولا حل لهذه المشكلة الأصلية إلا على الطريقة الأميركية أو الأسترالية، أي إبادة السكان الأصليين. الإبادة فقط يمكن أن تكتم التحدّي والسؤال، لكن هذا غير ممكن واقعياً، وحتى لو أمكن، على سبيل الافتراض، إبادة الفلسطينيين، فلهؤلاء امتدادٌ عربيٌّ تصعب إبادته. هذه هي المعضلة العميقة التي يواجهها ويفاقمها المتطرّفون الإسرائيليون الذين لطالما عبروا عن مأزقهم هذا بالقول إن “العربي الجيد هو العربي الميت”.
يخطئ من يعتقد أن التفوّق العسكري لإسرائيل يمكن أن يحلّ هذه المشكلة الأصلية الكامنة. لا يمكن لإسرائيل أن تحصّن نفسها من أمثال عدي التميمي وخيري علقم ومحمد عليوات الذي هاجم إسرائيليين بالرصاص، ويعلم أنه سيُقتل، وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر. هذا يقول، بعبارة بليغة، إن القوة مهما بلغت، وإن السياسة، مهما تفنّنت في التقسيم والمناورات وشراء الضمائر، لن تحققا الأمان لمعتدٍ ثابتٍ على عدوانه واحتقاره حقوق شعب آخر. وإن صيانة حياة المدنيين والعسكريين أيضاً لا تكون من خلال الاكتفاء بإدانة قتل المدنيين، من دون إدانة دوافع هذه الأفعال، كما يكرّر مسؤولو العالم، بمن فيهم مسؤولٌ يحتجّ، عن حق، ليلاً ونهاراً على ضمّ روسيا مناطق من أراضي بلده، ويتضامن، في الوقت نفسه، مع إسرائيل التي ضمّت، عن غير حقّ، أراضي فلسطين وغيرها.
صيانة حياة المدنيين تكون في العمل على تحقيق قدرٍ معقولٍ من التوازن والعدل، لأن وسائل المقاومة لانهائية ولا يمكن مصادرتها. والدرس الذي يكرّره التاريخ، ويسعى الطغاة إلى صمّ آذانهم عنه، أن الاستسلام فعلٌ فرديٌّ، ولا يمكن لشعبٍ أن يستسلم.