انهيار أسطورة الردع الإسرائيلي

حلمي الأسمر

حرير- كانت كلمة “الردع” التي يستخدمها الخطاب الصهيوني الرسمي منذ زمن بعيد مصحوبةً بكلمة “قوة”، ثم ما لبثت أن صحبتها كلمة “تآكل”، وشيئا فشيئا صارت مصحوبة بكلمة “استعادة” الردع!

اعتمدت الاستراتيجيا الصهيونية، بشكل رئيس، على سياسة الضربات الاستباقية والردّ السريع على كل من “نهش” الكيان. وصاحبت هذا “هالة” من التخويف والإرعاب والإرهاب، كي يفكّر كل من يريد أن يناجز الكيان أن يعدّ إلى المليون، وعزّز هذه السياسة “الانتصار” المبهر” للكيان في حرب 1967، التي كانت “نكسةً” كبرى بكل المعايير للعرب، بقدر ما كانت وقودا “نوويا” لتضخيم الشعور بالقوة في مخيال الكيان، ثم جاءت حرب العاشر من رمضان، لتقلل من هذه “النفخة” الاستعلائية، وسبقتها معركة الكرامة، لتضيف مدماكا آخر في “تحجيم” الشعور المرضي بالتفوّق الصهيوني، ثم جاءت حرب إخراج المقاومة من لبنان لتنهي مرحلة هامة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، حيث انتهى فعليا عهد الحروب بين النظام العربي الرسمي والكيان، لتبدأ الحرب بين الكيان والتنظيمات الدولاتية، كحزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وما بقي من تنظيمات المقاومة. ورافقت هذا تلك المقاومة الشعبية التي أخذت شكل الانتفاضات والهبّات، إلى أن وصلت المواجهة إلى شكلٍ مستحدثٍ فرضته اللحظة التاريخية، وهي التي يسمّونها ظاهرة الذئاب المنفردة. والحقيقة أن الحروب أو المعارك التي دارت بين الكيان والنظام العربي الرسمي وفّرت للكيان اكتنازا مرَضيا للشعور بالتفوّق والقوة، وبالتالي، اعتماد سياسة “الردع”. إلا أن الانتصارات “الصغيرة” التي حقّقتها المقاومة في المواجهات بين الكيان والتنظيمات الدولاتية والمقاومة الشعبية، بدأت بحثّ قوة الردع قليلا قليلا، وفعلت ما تفعله الأظافر حين تحفر بالصخر. صحيحٌ أن ما تُنجزه قليل، لكن الدأب والإصرار أحدثا صداعا مزمنا في الجسد الصهيوني، وبدأت حكاية “الأمن الشخصي” الذي يشكّل حجر الزاوية في نجاح “الدولة” وأذرعها الأمنية القوية، تنخر في المخيال الصهيوني، حتى باتت بندا دائما على أجندة خائضي انتخابات البرلمان الصهيوني، وتدحرجت قصة الردع مع تزايد الهجمات المنفردة التي تقوم بها مقاومةُ فلسطينيةٌ غير منظّمة، حتى باتت حكاية الردع وتوفير الأمن الشخصي مفرغةً من محتواها.

وجود نحو سبعة ملايين فلسطيني بين البحر والنهر أكبر تحدٍّ وجودي للكيان، ولو كان ثمّة 1% فقط من هؤلاء مستعدٌّ للنيْل من الوجود الصهيوني، لتعيّن على هذا الكيان أن يبقى في حالة شعور بالتهديد، فما بالك حين تزيد هذه النسبة أضعافا مضاعفة، وتُصاحبها قوى أخرى مسلحّة تسليحا مختلفا، سواء في غزّة أو الضفة الغربية المحتلة؟

أمل الاحتلال أن يقضي على شعب فلسطين، ولو بالمعنى المجازي، فلم يُبْقِ أيا من أساليب الإبادة المعنوية والحسّية إلا وارتكبها، على أمل أن يُطفئ جذوة الشعور الوطني، ومسح كل ما يختزنه العقل الجمعي الفلسطيني من عناصر مشتركة، سواء كان في “داخل” فلسطين أو في الشتات، ساعدته في ذلك منظومة متكاملة من التواطؤات والمساعدات العربية والأجنبية، كل حسب استطاعته!

لم يُمْحَ اسم فلسطين من قواميس اللغات الحية، الخطوة الرمزية برفع علم فلسطين في الأمم المتحدة قد لا تعني شيئا على الأرض، لكنها شاهد على فشل “إسرائيل” ومن أمَدّها ولمّا يزل بأسباب القوة، عمليا ليس هناك “دولة” تسمّى فلسطين، بالمعنى الحقيقي للدولة، لكن الفلسطيني يحمل “دولته” في صدره حيثما حلّ، سواء كان تحت الاحتلال المباشر، أو في الشتات. وهكذا تحولت “الدولة” من كيان سياسي يمكن القضاء عليه، إلى كيانٍ وجداني، في المخيال الفلسطيني يستحيل أن تطاوله أيدي الأعداء.

لا يوجد على الأرض، الآن، من يناجز “بني إسرائيل” بالمعنى التاريخي والديني والوطني، إلا الفلسطيني. ثمّة حالة “احتضان” كاملة لـ”الوطن القومي لليهود” من الجميع في هذا العالم، وحده الفلسطيني من يقضّ مضاجع الصهاينة، في الأقصى مثلا. الصورة اليوم في غاية الوضوح: فلسطينيون عزّل يقاومون كل أساليب التهويد والتقسيم الزماني والمكاني بأجسادهم، رجالا ونساء، شيبا وشبّانا، أطفالا وراشدين، وهم لا ينتظرون عوْنا من أحد، ليس لأنهم يزهدون بالمعونة، بل لأن “لا أحد” هو من يعنيهم، فيما تلهج ألسنتهم بمقولة بلال الخالدة: أحدٌ أحد، وهم يُعذّبون في رمضاء العرب والعجم، لكأن الله عز وجل “أكرم” الفلسطيني بهذا “الواجب المقدّس” فخصّه دون غيره بمقاومة هذه “العصابة” الفاسدة، من سوائب وقطعان سموتريتش وبن غفير.

من المفارقات التي لاحظها كتاب عبريون، تبادل اليهودي والفلسطيني الأدوار في ما يخصّ ثنائية داود وجوليات، فداود اليهودي الضعيف صاحب الحقّ أصبح فلسطينيا، وجوليات الفلسطيني المتجبّر الظالم أصبح يهوديا، والغلبة، في النهاية، كانت في “العهد القديم” لداود تحت الاحتلال، تكفلت صهيونيّتهم بكل أشكال القمع والتهميش والملاحقة والظلم لمناوئيهم، وخارج الاحتلال، تكفّل “الآخرون” بمحاولة إبقاء الفلسطيني في حالة لهاثٍ وخوفٍ وعدم استقرار، (بل .. ملاحقة واتهام) يذود عن حياض أسرته الصغيرة، ليُعلّم الأولاد، ويجنّبهم شرور “سوء التغذية” والأنيميا الوطنية، أملا في أن يشغله هذا عن مهوى الفؤاد، وقِبلة الوجدان، ولكن من دون فائدة .. ألم نقل إنه يحمل وطنه في صدره؟

كتب أستاذ العلوم السياسية حسن البراري، في تغريدة على “تويتر”: هناك حدود لقوة “دولة” الاحتلال التي لم تنتصر في أي حرب بعد نكسة 1967، لم يعد المجتمع الإسرائيلي مجتمع الروّاد والمقاتلين، وهو يتغيّر لصالح قيم المتشدّدين والمتدينين الحريديم، وهذه الشاكلة كانت سببا لانهيار ممالكهم السابقة. منذ زمن، سقطت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”. والآن تفقد قوة الردع، وهي دولة لا يخشاها أحد، وهي الأقل احتراما من أي وقتٍ مضى. الطريقة التي تتعامل بها مع التحدّيات الأمنية تشي بأنها استنزفت وتعبت، وربما هناك الكثير من بواطن الضعف التي ستكشف عنها الأيام المقبلة. ونقرأ أخيرا مع شاعرهم العبري يعكوف جلعاد: “إنك لا تريد أن تكون هناك مطلقاً. إذن، ما العمل، أحدٌ لم يسألك ما الذي جاء بك إلى هنا. لكن، عندما تكبر ويكون لك ولد، ويسألك هذا الولد: ماذا أفعل عندما أصبح شاباً؟ ستقول له: غادر هذه البلاد، ولا تسأل أحداً”.

مقالات ذات صلة