نتنياهو: ما لليهود لليهود وما هو لغير اليهود لليهود

محمود الريماوي

حرير- حين تزعم حكومة بنيامين نتنياهو أن اقتحام الإرهابي الوزير إيتمار بن غفير المسجد الأقصى أمرٌ عادي لا جديد فيه، فهي لا تجانب الصواب في هذا الأمر، إذ إن استباحة المسجد هي بمنزلة سياسة منهجية لليمين الإسرائيلي، فقد شهد العالم هذه الاقتحامات بكثافة في عهد حكومة نفتالي بينت ويئير لبيد. ويدّعي الأخير من موقع المعارضة رفضه هذا الاقتحام، علماً أن عهد حكومته وشريكيه، بينت وبني غانتس، قد عرف صعود ظاهرة بن غفير، ولم تحرّك تلك الحكومة ساكنا، وهي التي كانت تسمّى، زورا وبهتانا، حكومة التغيير، حين اقتحم بن غفير حي الشيخ جرّاح الفلسطيني في القدس، وأشهر مسدّسه على قاطني البيوت.

يُخاطب نتنياهو الآن العالم العربي، ومن ورائه العالم كله، بنبرةٍ توحي بأن الاقتحامات حقّ مكتسب للاحتلال ومستوطنيه، وبنبرة من يستغرب ألا يكون قد جرى الاعتياد على ظاهرة الاقتحامات شبه اليومية، والتطبيع معها. وإذا كان الأمر كذلك، حسب منطق نتنياهو، فليس أمام الحكومة الجديدة سوى مواصلة هذه الأنشطة، حتى يتم الاعتياد الكامل عليها، وبخاصة أن مراكز إقليمية ودولية قد تغاضت عن الاقتحامات إلى أمدٍ طويل. وهذا هو فحوى التزام نتنياهو بـ”الوضع القائم” كما يدّعي .. إذ يجيز هذا الوضع لجماعاتٍ عنصريةٍ مسعورةٍ أن تستبيح مكان عبادة مقدّساً لدى غير اليهود. وعليه، كان الوضع القائم متضمنا الاقتحامات قائما من قبل، وما يحدُث الآن، من وجهة نظره، مجرّد امتداد واستئناف لما كان عليه الحال من قبل، باستثناء أن المستوطن الإرهابي بن غفير بات وزيرا في حكومة المستوطنين. واستكمالا لهذا المنطق، على بن غفير في هذه الحالة أن يرسل، في المرّة المقبلة، نائباً أو مساعدا له في حزب “القوة اليهودية” لاقتحام مسجد المسلمين، إذ يقيّد منصبه في الحكومة حركته بعض الشيء، ويكفي أن الحكومة العتيدة تتبنّى سياسات قوة بن غفير اليهودية ومنهجها.

على هذا النحو، يواصل نتنياهو التلاعب بالعقول، فيبدي استغرابه من رفع المسألة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، رغم أن حكومته ملتزمة، كما يقول، بالوضع القائم في المسجد الأقصى، فللمسلمين أن يؤدّوا الصلوات في المسجد، ولعُتاة المتطرّفين المسلحين أن يواصلوا اقتحاماتهم المبرمجة برعاية شرطة الاحتلال وجهاز الشاباك وترويع من يؤمّون المسجد. ويكاد لسان حاله يقول: هل تتوقعون مني، أنا ملك اليمين في إسرائيل، أن أكون أقلّ يمينية من غانتس وبينت ولبيد، الذين رعوا الاقتحامات وكرّسوها، وقد فتحت لهم أبواب العواصم الإقليمية والدولية، فلماذا تقوم الدنيا عليّ أنا بالتحديد، وعلى بن غفير الذي لم يستكمل نضوجَه بعد، والذي لم يتكيّف بعد كما يجب مع كونه وزيرا؟ أعطوه فرصة، كي يفكّر بإرسال موفدٍ له لاستباحة الأقصى بدل الذهاب بنفسه، وسوف تُفتح الطريقُ، بعدئذٍ، لهذا الموفد، كي يتولّى حقيبة وزارية.

وخلافا لما يتردّد عنه، نتنياهو شخصٌ يؤمن بالتعدّدية الدينية وحرية ممارسة الشعائر الدينية، ودليله على ذلك أنه يواصل سياسة منح اليهود فرصة زيارة المسجد الأقصى، تمهيدا لأداء شعائرهم الدينية فيه، وفي رأي هذا الرجل أن أفضل برهنةٍ على الحرية الدينية هو في تمكين اليهود من التعبّد في مسجد المسلمين، والتدفق على المكان بحراسة رجال الشرطة والمخبرين. أما غير اليهود من مسيحيين ومسلمين، فلا يحقّ لهم التفكير بأداء شعائرهم في كنيس من الكنس، فما هو لليهود هو لليهود، وما هو لغير اليهود فهو لليهود ولغير اليهود، ومن يعترض على ذلك فإنه يقيم على نفسه البرهان بإنه معادٍ للسامية، ولطالما أبدى الأوروبيون والأميركيون حرصا تاما على تجنّب الانزلاق في هذا المنزلق.

يُذكر هنا أن اقتحام بن غفير المسجد الأقصى واكبه اعتداء عنصريين على شاكلة هذا الرجل على مقبرة مسيحية تاريخية بالقرب من البلدة القديمة في القدس. وقد تعرّض أكثر من 30 قبرًا في المقبرة البروتستانتية للاعتداء، وحُطّمت صلبان وتعرّضت شواهد قبور للانتزاع والتحطيم. ولم تُنكر شرطة الاحتلال هذا الاعتداء، والذي جاء بعد أيام على قرار قضائي إسرائيلي بشرعنة استيلاء جمعيات صهيونية على أملاك للكنيسة الأرثوذكسية في القدس .. ويأتي ذلك كله في سياق حملة تهويد قسرية للقدس المحتلة لطمس مظاهر الوجود العربي المسيحي والإسلامي في المدينة المقدسة، وهي حملةٌ ذات حلقات متتابعة ومتصلة تجري على مرأى ومسمع كل من العالمين، المسيحي والإسلامي، بل نشأت في غمرة هذه الحملة الاتفاقيات الإبراهيمية التي وفّرت بيئة سياسية مواتية لمزيد من التهويد والغزو الاستيطاني للأراضي المحتلة، ومن ضمنها الجولان، فما دامت هذه الاتفاقيات قد أبرمت في ظل ذلك النهج لحكومات الاحتلال، فلماذا لا تتم مواصلة هذا النهج، بل ومضاعفته؟

وعليه، مرافعة نتنياهو المستندة إلى أن لا جديد في اقتحام وزيره بن غفير المسجد الأقصى، وتصنيف الاقتحام جزءا من الوضع القائم، أو لا يمسّ، على الأقل، بالوضع القائم. لا تجانب هذه المرافعة الصواب، فقد تم السكوت طويلا عن هذه الظاهرة المشينة، وتم التعايش ثم التعاون مع دولة الاحتلال في وجود هذه الظاهرة. وما يستحقّ أن يقال عن الشجب والتنديد لواقعة الاستباحة أنه لا يأتي بجديد، ولا يضع حدّا للشذوذ السياسي الإسرائيلي، فما دام أنه لا يتم التقدّم خطوة واحدة إلى الأمام باتخاذ إجراءاتٍ ملموسةٍ ذات مغزى وأثر ضد الأمر الواقع، فإن الأمر الواقع سوف يستمر ويستفحل، وقد يحدُث من طرف نتنياهو وعصابة وزرائه انحناءٌ لفظي وآني أمام العاصفة الإعلامية والدبلوماسية، ولكن من دون أي تغيير في النهج المتتابع، وفي الوضع الذي يقوم على تمكين الاحتلال الاستيطاني والعسكري من الأرض المحتلة وإغلاق الأبواب أمام أي حلٍّ سياسيٍّ جدّي.

مقالات ذات صلة