غياب الشفافية في التعيين على الوظائف القيادية

 

الاستاذ الدكتور حمدي القبيلات

استاذ القانون الاداري

تكفل الدساتير عادة الحق للمواطنين بتولي الوظائف والمناصب العامة وفقا لمعايير موضوعية ترتكز على الكفاءة والمؤهلات بالدرجة الاولى، ولم يكن الدستور الاردني بمعزل عن ذلك، إذ نصت المادة (23) منه على أنه ” 1. لكل اردني حق في تولي المناصب العامة بالشروط المعينة في القانون او الانظمة . 2. التعيين للوظائف العامة من دائمة ومؤقتة في الدولة والادارات الملحقة بها والبلديات يكون على اساس الكفايات والمؤهلات” . وتأتي عادة النصوص القانونية لتترجم هذه المساواة على ارض الواقع من خلال نصوص تفصيلية تعتمد اسلوب او اكثر لاختيار المرشحين لإشغال الوظائف والمناصب العامة، ومن المتعارف عليه لدى كافة الدول أن اختيار شاغلي الوظائف القيادية يخضع لسلطة تقديرية واسعة للسلطات السياسية العليا، وهي لدينا ممثلة بمجلس الوزراء، لذلك يتم التمييز عادة بين التعيين على الوظائف القيادية وغيرها من الوظائف، من حيث جهة واسلوب الاختيار والتعيين، والتزم نظام الخدمة المدنية ذلك منذ البداية، إذ جعل اختيار شاغلي هذه الوظائف وتعيينهم من اختصاص مجلس الوزراء وفق سلطة تقديرية واسعة في هذه المجال، ولكن هذه السلطة التقديرية لا تعني ان مجلس الوزراء يملك حق الاختيار بشكل مطلق دون رقيب او حسيب، وانما يمارس سلطة التقدير وفق ضوابط قانونية محددة تحول بينه وبين الانحراف في استعمال هذه السلطة او حتى الخطأ البيّن في التقدير عند ممارستها، وذلك كله تحت رقابة القضاء الاداري الذي يملك الغاء أي من هذه القرارات اذا ما شابها انحراف باستعمال السلطة او خطأ بيّن في التقدير، علاوة على تدخل المشرع احيانا للحد من هذه السلطة التقديرية من خلال فرض اجراءات وضوابط محددة على السلطة المختصة اتباعها واحترامها عند اتخاذ أي قرار بالتعيين على مثل هذه الوظائف. ومن هنا جاء نظام التعيين على الوظائف القيادية الاردني رقم (78) لسنة 2019 ليحدد آلية تعيين شاغلي الوظائف القيادية وفق اسلوب يكفل تطبيق النص الدستوري السالف الذكر، ويحقق الشفافية في قرارات التعيين الصادرة في هذا المجال. ومن خلال تحليلنا لهذا النظام ومتابعة تطبيقه على ارض الواقع نلاحظ ما يلي:

اولا : أن من شرّع هذا النظام هو مجلس الوزراء باعتباره الجهة المختصة بالتشريع بموجب انظمة مستقلة فيما يتعلق بشؤون الوظيفة العامة، وفقا لأحكام المادة (120) من الدستور الاردني.

ثانيا : أن هذا النظام لم يراع ان الهدف من تشكيل لجنة لمقابلة المتقدمين لإشغال الوظائف القيادية، وهي ما اطلق عليها اللجنة الوزارية، فالهدف من تشكيلها هو انها تمثل اجراء اضافيا الغاية منه مزيد من التأني وعدم التسرع في اتخاذ القرار وضمان مشروعية هذه القرارات من جهة، واتاحة اكبر فرصة ممكنة للتنافس بين المتقدمين لإشغالها من جهة اخرى، ذلك أن النظام جعل اللجنة الوزارية للاختيار والتعيين على الوظائف القيادية المشكلة وفقا لأحكام هذا النظام تتشكل على النحو التالي : برئاسة نائب رئيس الوزراء وعضوية كل من:- وزير العدل، المرجع المختص (المرجع الذي ينسب للمجلس بالتعيين على الوظائف القيادية الشاغرة وفق أحكام التشريعات النافذة)، وزيرين يختارهما رئيس الوزراء وفقا لطبيعة الوظيفة الشاغرة، رئيس ديوان الخدمة المدنية. وواضح أن مجلس الوزراء المختص بالتعيين هو ذاته المختص بالاختيار والمفاضلة بين المتقدمين، وهذا يفقد هذا الاجراء أي قيمة، فمجلس الوزراء سيعتمد اختيار هذه اللجنة بكل الاحوال دون مراجعة او نقاش يذكر، نظر لكونها تتشكل من الرئيس واعضاء في المجلس. وكان من الاجدر أن تشكل هذه اللجنة من اشخاص محايدين لا ينتمون لجهة اتخاذ القرار.

ثالثا : ان الوظائف القيادية المشمولة بأحكام هذه النظام هي وظائف المجموعة الثانية من الفئة العليا فقط، ولا تشمل المجموعة الاولى منها. علاوة على انه وفقا لأحكام المادة (10) من النظام ” أ-  يستثنى من أحكام هذا النظام المحافظون والسفراء وأمين عام مجلس الاعيان وأمين عام مجلس النواب ومدير عام مكتب كل من رئيس الوزراء ورئيس مجلس الاعيان ورئيس مجلس النواب .ب- لا تسري احكام هذا النظام :  1. على الوظائف القيادية الشاغرة التي يتم تعبئتها عن طريق النقل في حال انطبقت عليه المتطلبات الأساسية والكفايات الوظيفية الفنية المطلوبة للوظيفة المنقول اليها وبتوصية من الديوان.2 . عند تجديد تعيين شاغل الوظيفة القيادية” .

رابعا : أن معايير المفاضلة والاختيار انصبت بشكل رئيس على قناعة اللجنة الوزارية الشخصية المشار لها اعلاه، من خلال اعطاء المقابلة الشخصية (70) علامة، في حين أن المؤهلات والخبرات وغيرها لم يعطها النظام سوى (30) علامة، إذ نصت المادة (7/ج) من النظام على انه ” ج- يخصص للمقابلات الشخصية (70) علامة وفقا للنموذج الذي يعده الديوان لهذه الغاية على ان يخصص منها ما لا يقل عن (25) علامة للإلمام والمعرفة بطبيعة عمل الدائرة التي شغرت فيها الوظيفة القيادية” . وهذا يعيدنا الى المربع الاول، أي ان مجلس الوزراء ومن خلال اللجنة الوزارية يملك اختيار أي شخص للتعيين بصرف النظر عن مؤهلات وخبرات وكفاءة الاخرين، فالمقابلة الشخصية يصعب عادة الرقابة عليها وضبطها، وتلعب الاعتبارات الشخصية دور كبير في الاختيار دون ان يكون في ذلك مخالفة للنظام بصورته الحالية، وكان من الاجدر ان تكون العلامات الاكثر للمعايير الموضوعية وليس الشخصية، ناهيك عن أن ما يمكن كشفه من خلال المقابلات الشخصية، يمكن الوصول اليه من خلال اختبارات موضوعية محوسبة تقيس كل ما ترغب اللجنة بمعرفته عن المتقدم، بما فيها سلوكه وسماته الشخصية ومهاراته، بعيدا عن تدخل العنصر البشري، وبعيدا عن الواسطة والمحسوبية.

خامسا : في ظل هكذا نظام وهكذا معايير تصعب الرقابة القضائية على قرارات تعيين هذه الفئة من الموظفين، مما يحرم هؤلاء الاشخاص من ضمانة مهمة من ضمانات تحقيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص الذي اخذ به الدستور الاردني.

وما نود الوصول اليه أن هذا النظام لم يفلح في جسر الهوة في الثقة بين المواطنين ومتخذي القرار في الادارة العامة الاردنية، لا بل انه وسّع هذه الهوة، وأكد للمواطنين أن الشفافية ما هي إلا شعارات مفرغة من المضامين، ولا وجود لها الا في ادبيات الخطاب السياسي، وهذا ما جعل كثير من القرارات الصادرة بالتعيين على الوظائف القيادية تقابل بموجة عارمة من السخط والرفض لانعدام الثقة اصلا بحيادية متخذ القرار، وغياب الضمانات التي تكفل المساواة امام تولي الوظائف والمناصب العامة، وتحقق مبدأ تكافؤ الفرص في هذا الميدان. وما نشاهده اليوم من قيام بعض الافراد بمحاولة فرض ارادتهم لإلغاء بعض هذه القرارات بأساليب غير مألوفة على الساحة الاردنية، واجبار الادارة لاختيار من يرونه هم مناسبا، ما هو الا عدم قناعة بنزاهة وشفافية هذه القرارات رغم كل هذه الإجراءات .

 

مقالات ذات صلة