عن سيميولوجيا الصورة في مونديال قطر

أنور الجمعاوي

حرير- غدت الصورة في زمن الوسائط البصرية الجديدة والتّقنيّات الرّقميّة المتعدّدة حدثا تواصليّا حيّا وشكلا جماليا متجدّدا، وعملا سيميائيا مكثّفا، يعبّر عن كينونة الأنا والآخر في تجلّياتها المختلفة، ففي ظلّ مجتمع شبكي، معولم ومرقمن، غلبت عليه الهواتف الذّكيّة، وحواسيب الكفّ والجيب، والكاميرات الاحترافيّة، الرقمية، والفوريّة، وتقنيّات التّصوير ثلاثي الأبعاد، أصبحت الصورة عملا فنيّا، وفعلا إبداعيّا سريع الانتشار يحمل طيّه خلفيّات ثقافيّة عدّة وأبعادا سيميولوجيّة شتّى، ويتميّز بقوّة تأثيريّة كبرى، تساهم في صناعة الفرجة، وتوجيه الرّأي العامّ، وإحداث مشاعر متباينة في نفوس النّاس تتراوح بين الإبهار والاشمئزاز، وبين التّعاطف والاستهجان، وبين الدّهشة والإعجاب، وبين الحزن والبهجة. فللصورة طاقة تحويليّة جبّارة، وقدرة خارقة على التّعبير والتّأثير والتّخييل في آن، والمتابع لمونديال كرة القدم في قطر يتبيّن أنّه زاخر بصور بديعة، معبّرة، كثيرة، ذات أفق سيميولوجي واسع، ومحمول قيمي ثرّ، وهي صور جديرة بالتّفكير فيها.

كان حفل افتتاح النّسخة الثّانيّة والعشرين من كأس العالم قطر2022، الذّي احتضنه ملعب البيت في الخور، مشهدا احتفاليّا ومهرجانا فنيّا رائعا، دمج بين الثّقافتين القطريّة والعالميّة، واشتمل على سبع لوحات تصويريّة معبّرة، “النّداء”، لتعارفوا”، “إيقاع الأمم”، “نوستالجيا كروية”، “الحالمون”، “جذور الحلم”، “هنا والآن”، وهي لوحات جمالية ذات محمول رمزي ودلالي مكثّف. ذلك أنّها روت للمشاهد سيرة مسابقة كأس العالم عبر التّاريخ، وقصة الحلم القطري باحتضان المسابقة الكرويّة الأشهر. وراوحت بين بيان ثقافة البلد المضيف وقيمة الانفتاح على ثقافة الآخر. وتعدّ لوحة “لتعارفوا” من أكثر اللّوحات التّصويريّة التّي خطفت الحواسّ وصنعت الفرجة، وتضمّنت فقرة حواريّة بين الممثّل الأميركي مورغان فريمان والشّاب القطري غانم المفتاح، عن أهميّة التّعارف وضرورة التّثاقف تكريسا لمنطوق الآية القرآنيّة “يا أيّها النّاس، إنّا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”. وركّز النّقاش المشهدي بين الطرفين على ضرورة التّحرّر من سطوة الأحكام المسبقة والمواقف المعيارية الجاهزة تجاه الغير، والإقرار بأهميّة ثقافة الاختلاف، وضرورة التّعايش مع المخالف وقبول غيريته في المشهد الحضاري، التعدّدي الكوني المعاصر. وقد وقف المتحاوران، في ظلّ صياغة إخراجية وفنّية بديعة، على جسرين ضوئيين، ما لبثا أن تقاربا والتقيا مع نهاية الحوار، كناية عن إمكان اللّقاء التّفاعلي بين الغرب والشّرق، تحقيقا لمبدأ الاحترام المتبادل والتّعايش البنّاء بين الجانبين، فكانت الصورة بذلك حاملا وظيفيّا، ووعاء سيميولوجيّا يؤسس للتّواصل بدل التّنافر، وللتّنافذ بدل التّنابذ، وللتّعاون بين الأمم بديلا عن مقولات “صراع الحضارات” و”المركزيّة العرقيّة” و”ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة” والاستعلاء عن الآخر.

ومن بين الصور الأكثر انتشارا في مونديال الدّوحة صورة العلم الفلسطيني الذّي ملأ الدّنيا وشغل النّاس داخل الملاعب وخارجها، حتّى إن إعلاميين ذهبوا إلى أنّ فلسطين هي المنتخب رقم 33 في بطولة كأس العالم في قطر، فقد تلحّف كثيرون بالعلم الفلسطيني، ورفعه آخرون خفّاقا في المدّرجات وفي المستطيل الأخضر. ومن أكثر الصور المشهديّة المعبّرة التّي تداولها نشطاء شبكات التّواصل الاجتماعي، في هذا الخصوص، صورة المشجّع التونسي الشابّ محمد أمين بالآغا، الذي قفز من المدّرجات خلال مباراة تونس وفرنسا، ونزل إلى ساحة ميدان المدينة التّعليميّة مرتديا القبّعة التّونسيّة الحمراء (الشّاشيّة) رافعا بيده العلم الفلسطيني مرفرفا، وجاب الملعب، وهو يقوم بحركات رياضيّة جذّابة وسط ذهول اللاّعبين والحكم، بينما اهتزّت المدّرجات هتافا لفلسطين، وذلك قبل أن يمسك به رجال الأمن. وعندما سأله صحافيون عن سبب قيامه بذلك أجاب: “أريد لفت نظر العالم إلى قضية فلسطين، والتّعريف بها في هذا المحفل الكروي الكوني الكبير، وهي قضية، بل مظلمة، كثيرا ما تجاهلها الغرب، لذلك من المهمّ التّذكير بها”. والواقع أنّ حركة الشّاب التّونسي رمزيّة ذات أبعاد سيميولوجيّة جمّة، فهي صرخة احتجاج ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وضدّ الاستعلاء الغربي الذّي ما انّفكّ يكيل بمكيالين ويتجاهل الانتهاكات الإسرائيلية ضدّ المدنيين الفلسطينيين. ودلّت تلك الحركة على أنّ القضيّة الفلسطينيّة حيّة في النّفوس، راسخة في الوعي الجمعي العربي عموما، والشبابي خصوصا، وأنّ العرب متمسكون بضرورة تأمين حقّ الفلسطينيين في العودة والاستقلال، والاستقرار، والكرامة في أرضهم التّاريخيّة. وأخبر الانتصار الشعبي لفلسطين أنّ خيار التّطبيع مع إسرائيل الذّي اعتمدته بعض الأنظمة العربيّة فوقي، أحادي، معزول ليست له حاضنة شعبيّة داخل الاجتماع العربي.

على صعيد آخر، مثّل احتفال لاعبين وفنيين مغاربة مع أمّهاتهم بانتصاراتهم على منتخبات كبرى (بلجيكيا، إسبانيا، البرتغال) حدثا مشهديّا بصريّا باهرا، لفت إليه الأنظار، وحاز إعجابا كثيرا، فمبادرة الرّياضيين المغاربة (نايف أكرد، أشرف حكيمي، سفيان بوفال، وليد الركراكي…) بالصعود إلى المدارج عقب كلّ مباراة وتقبيل أمّهاتهم، حركة رمزية، دالّة على الاعتراف بالجميل للوالدة باعتبارها صانعة المجد وراعية الأجيال الصاعدة. فخلف كلّ لاعب مبدع أمّ مثابرة، مكابدة، ضحّت بالغالي والنّفيس من أجل إسعاده وضمان تألقه ونجاحه. ولقد خطفت صورة سفيان بوفال وهو يرقص مع أمّه على أرضيّة ملعب الثمامة، بعد انتصار المنتخب المغربي على البرتغال وتأهله إلى الدّور نصف النّهائي، الأنظار، وتداولتها وسائل الإعلام وشبكات التّواصل بشكل مكثّف، ولاقت إعجابا كبيرا لما حملته من دلالات عارمة، في مقدّمتها الوفاء للأمّ ومقاسمتها البهجة، فالفوز فوزها ومناسبة لتكريمها. والحقيقة أنّ تلك المشاهد غنيّة سيميولوجيّا بمعاني البرّ بالوالدين وقيم التّماسك العائلي. وهي دالّة على أصالة النّواة الأسريّة ومتانتها داخل الاجتماع العربي والإسلامي الذّي ينهل من معين أخلاقي/ قيمي، يعتبر”الجنّة تحت أقدام الأمّهات”، ويؤكّد أنّ “رضا اللّه من رضا الوالدين”. وهو نظام قيمي، يتعارَض عمليّا مع ظواهر الفردانيّة، والأنوية، والمثلية، والنزعات المادّية التي انتشرت بشكل لافت في عصرنا المعيش، خصوصا في بعض المجتمعات الغربيّة. ومن ثمّ، كان المونديال فرصة للتّعبير عن ملامح نموذج حضاري شرقي يحتفل بالأسرة عموما والأمّ خصوصا. ودلّ ذلك على حضور فاعل للمرأة داخل السياق العربي/ الإسلامي، جعلها محلّ تقدير داخل المجتمع الذي تنتمي إليه. وذلك على خلاف السرديات الاستشراقية التي اختزلت غالبا المرأة العربية والمسلمة في صورة المرأة المهمّشة وذات المكانة الدونية.

كما مثّلت مبادرة عائلة قطريّة نصب خيمة كبيرة قرب أحد الملاعب لاستضافة مشجّعي المنتخبات المشاركة في العرس الكروي العالمي، وإكرام وفادتهم، صورة مشهديّة رائعة تناقلتها وسائل الإعلام بشكل واسع. وقد استقبل أفراد الأسرة المضيفة زوّار قطر في مجلسهم المفتوح أين اكتشفوا عادات البلد وتقاليده، وتناولوا الحلويّات، والأكلات المحليّة، وشربوا القهوة والشّاي وشاي الكرك مجانا، في أجواء حماسيّة تلقائيّة. وبدت على وجوه الضيوف علامات الانبهار والفرح، وعبّروا عن سعادتهم بما وجدوه من ترحيب ورعاية وحسن معاملة من سكّان البلد المضيف. وتكمن أهميّة ذلك المشهد التّصويري في أنّه يكشف أصالة مبدأ الضيافة والإحسان إلى الغير في سلوك القطريين خصوصا والعرب عموما، فقد دلّت تلك المبادرة المواطنيّة على تهافت الرّأي المضلّل القائل إنّ العربي كائن محافظ، منغلق على نفسه، وبيّنت أنّه على خلاف ذلك مضياف بطبيعته، ميّال إلى الانفتاح على الغير ومدّ جسور التّواصل معه.

على صعيد آخر، تناقلت عدسات الكاميرات صور مشجّعين أجانب من جنسيّات مختلفة، خصوصا من أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، يرتدون الزّي الخليجي (الدّشداشة، الغترة، العقال) في مدرّجات الملاعب كما في الشّوارع والمطاعم والمقاهي القطرية، وفي الغالب، يرتدونه ملوّنا بألوان منتخبات بلدانهم. وساهم ذلك في التّعريف بالثّقافة المظهريّة الخليجيّة، وعبّر عن أنّ لعرب الخليج ذائقتهم الجماليّة الخاصة في مستوى اللّباس. وارتداء الزّوار ذلك اللباس المميّز دليل على إعجابهم به وتأثرهم بثقافة البلد المضيف. وتواتر ظهور مشاهد لمشجعين أجانب يلهجون بكلمات عربيّة مثل “السّلام عليكم”، “مرحبا”، “هيّا”، “شكرا”، “ما شاء اللّه”،”يا هلا فيكم”، “إن شاء الله”،”مع السّلامة”. ودلّ ذلك على سهولة اندماج الزّوار مع النّسق التّداولي اللّغوي والثّقافي للبلد المضيف وتأثّرهم به. فكان بذلك مونديال قطر فرصة كبرى للتّثاقف، انتقل معها العربي المعاصر من تقليد الغير لباسا ولسانا إلى التّأثير فيه لغة ومظهرا.

ختاما، بعيدا عن الصور العنيفة التّي ملأت عالمنا المعاصر بسبب انتشار الكراهية، والحروب والحملات العنصريّة، والنّزعات الإقصائيّة، جاءت صور المونديال من قطر مفعمة بالإيجابية، مترّعة بالحياة، طافحة بمعاني المحبّة والسّلام والوئام والإلف العائلي والتّعايش الأممي. فبعثت في النّفوس البهجة وصنعت الفرجة، وغيرّت نسبيّا الصور النّمطيّة المغلوطة عن العرب، مخبرة بأنّ المواطن القطري/ الخليجي خصوصا، والعربي عموما، ليس كائنا استهلاكيا، مستقيلا، مغلقا. بل كائن تثاقفي، حيّ، له ذائقته الجماليّة الخاصّة وخلفياته القيميّة والحضاريّة المميّزة، وفي مقدوره تنظيم أعتى التّظاهرات الرّياضيّة والفنيّة العالميّة بكفاءة عاليّة والفعل في المشهد الحداثي الكوني على كيفٍ ما.

مقالات ذات صلة