عن واجب الاعتذار لقطر

محمد أحمد القابسي

حرير- وصف رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، الحملة الإعلامية العنصرية الاستعلائية التي ينخرط الإعلام الغربي فيها تجاه قطر بأنها عملية نفاق ممجوج، تتطلب من مطلقيها تقديم واجب الاعتذار لشعوب العالم الثالث، عوضاً عن إظهار مشاعر التفوق الحضاري ضد من استعمرتهم أوروبا عقوداً طوالاً، ونهبت خيرات بلادهم في وضح النهار، وهو ما ذهب إليه بكلّ مسؤولية ونبل سفير فرنسا في الدوحة، جون باليست، بقوله: “نحن لا نعطي دروساً لأنّ من يعطي دروساً يجب برأيي أن يكون مثالياً وكاملاً، وما من بلد كامل ومثالي”.

ولم تخفِ شخصيات دولية وجهات محايدة وازنة وشريفة اشمئزازها من مسلسل الهجمات الإعلامية العنصرية التي أطلقها كثير من الإعلام الغربي، ويواصل إطلاقها لتقريع قطر بمناسبة نجاحها في استضافة فعاليات كأس العالم، رغم انطلاق هذه الفعاليات بحفل الافتتاح التاريخي والاستثنائي، فقد طالعتنا صحف وقنوات أوروبية بمضامين وعناوين إعلامية مقزّزة وجارحة. وتكفي الإشارة هنا إلى تجاهل قناة “بي بي سي 1” البريطانية هذا الافتتاح المبهر الذي لفت أنظار العالم لما تميّز به، ولتعبيره عن روح التسامح وقبول التعدّد وإعلان الأرض القطرية بيتاً يرحب بالجميع. وما شوّهت به صحيفة ليبراسيون الفرنسية “ذات المنحى التقدّمي” و”الحقوقي” والدفاع عن قضايا العدل والحريات صفحتها الأولى بعنوان يقطر حقدا وكراهية واستعلاء. وغير بعيد عن فرنسا انخرطت جهات إعلامية ألمانية وأميركية في جوقة المستعلين والمتخفين في جلابيب العنصرية المقيتة.

والواقع أنّ نعرات هذا الإعلام الظالم التي رافقت احتضان الدوحة عرس كأس العالم تبدو موضوعيا طبيعية، إذ لم يسبق لدولة عربية وإسلامية أن كسبت رهان احتضان هذا الحدث العالمي، وكان الأجدى أن ينهي رهان نجاح حفل الافتتاح الرائع هذا التنمّر الإعلامي البغيض، فبعد حملات التشكيك في قدرة دولة عربية لأول مرة في تاريخ المونديال الكروي، وبعد نجاح حفل الافتتاح، على تنظيم هذا العرس، يواصل هذا الإعلام هجماته الشرسة. وهذه الحملات والهجمات يبدو أنّ مزاج أصحابها لم يقبل أن تنجح دولة عربية صغيرة في الجغرافيا، كبيرة في الثروات وبالتزامها بخصوصياتها الثقافية والحضارية واحترام الثقافات المتعددة لباقي شعوب الأرض، في تنظيم هذا الحدث الكروي العالمي.

ولذلك كشف هذا المزاج الغربي الإعلامي المريض عن نزعاته الاستعلائية، متذرّعاً بشعاراتٍ كان الأجدى أن يفجرها على أرضه أولاً، فتارّة قطر لم تحترم حقوق العمّال الذين شيّدوا ملاعب كرة القدم التي كادت أن تكون من عجائب الدنيا، وأخرى أنّ المعالجات البيئية في هذه الملاعب بتبريدها في مناخ صحراوي قد تزيد في الضرر بالتغيرات المناخية على سطح الأرض، ناهيك عن حملات التشكيك والتنمّر التي أطلقت مع منح قطر فرصة استضافة العرس الكروي العالمي. وقد نافستها في تلك المناسبة دول عظمى، أولها أميركا، وقد انطلقت على مدى أكثر من عشر سنوات حملات التشكيك ودعوات المقاطعة لكنّها فشلت وفشل أصحابها في تكريسها على أرض الواقع. وكان من الأجدى، كما يذهب إلى ذلك حقوقيون، أن تسبق هذه الحملات المسعورة دعواتٌ إلى تصحيح الوضع، إن وجد فعلاً واقعاً على الأرض القطرية، فلماذا صمت هذا الإعلام عن ذلك، إلى حين عشية انطلاق العرس الكروي؟

وبالعودة إلى هذه الذرائع والشعارات التي يدّعي الإعلام الغربي الدفاع عنها والتمترس بها “فحقوق العمّال الأجانب” و”احترام حرية الأقليات” و”رهاب المثلية” وانتهاكات المهاجرين والمقيمين الأجانب، كان الأولى أن يفضحها إعلام المكيالين وهي بين ظهرانيه في الأرض الغربية، لا أن يصمت عنها كما سبق أن صمت في كلّ دورات المونديال السابقة التي استضافتها دول أوروبية أو في أميركا اللاتينية وآسيا وجنوب أفريقيا، وصولاً إلى النسخة ما قبل القطرية في روسيا، بلدان لا يجزم عاقل بأنّ المسألة الحقوقية أو البيئية او احترام الحريات والأقليات لا يمكن أن يثار حولها هذا الضجيج المجاني الذي يثار تجاه قطر، فلماذا مثلاً لم يرَ العالم هذا الضجيج الاعلامي المسعور عند استضافة فرنسا كأس العالم عام 1998 ولماذا صمتت “ليبيراسيون” وغيرها من صحف وقنوات واذاعات وأصوات عن الإرث الفرنسي الاستعماري في أفريقيا وغيرها وعن أدوار فرنسا المكشوفة في حبك الانقلابات في دول أفريقية عديدة ومساندة الديكتاتوريات ثم وضع السياسات والسيناريوهات لنهب الخيرات وبناء وسائل وذرائع الاستلاب والتبعية من فرنكوفونية باسم اللغة الفرنسية “البريئة” وثقافة الأنوار والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة في هذه البلاد؟

ولماذا لم يستحضر هذا الإعلام المأزوم المدوّنة العنصرية التاريخية، حين نُظّم الكأس العالمي في جنوب أفريقيا 2010؟ ولماذا صمت هذا الإعلام عندما احتضنت روسيا هذا الحدث الكروي العالمي، وهي المعروفة تاريخياً بسجلها الذي أقل ما يقال فيه إنّه شديد السواد في مجال الحقوق والحريات وقمع المعارضين وتشريد المنشقين؟ أليس في ذلك، وبعد كلّ هذه الأسئلة، ما يؤكد تاريخياً وأخلاقياً ازدواجية المعايير التي يمارسها الغرب، ويكرسها، كما يشاء ومن دون سبب، إعلامُه؟

يبقى سؤال مهم وحارق، نطلقه مع صديقنا الإعلامي، محمد كريشان: تُرى ماذا لو نظم كأس العالم في إسرائيل؟ هل كنّا كما يقول “سنسمع عن صغر مساحتها وهي بالمناسبة مساحة قطر تقريباً، وعن أنّها الدولة التي ترعى أقدم وأطول احتلال في العصر الحديث باحتلالها أراضي الضفة الغربية وغزة من 1967 ضاربة عرض الحائط بكلّ القرارات الدولية؟ هل كنّا سنسمع عن التيارات الدينية الفاشية، وعن إقامة المستوطنات يومياً، وعن اعتقال الأطفال وقتل النساء والصحافيين، وعن الآلاف من الأسرى القابعين في السجون، وعن أكبر سجن مفتوح في العالم في غزة وعن وعن…؟”.

لا يمكن لهذا الإعلام المنافق ولأصحابه أن يقدّموا لنا جواباً أو أجوبة شافية عن هذه الأسئلة، هم سعداء باستمرارهم في العزف داخل جوقة النفاق والاستعلاء والعنصرية، فهل يعود وعيهم يوماً ما للاعتذار لدولة عربية مسلمة هي قطر، فقط لأنها كسبت الرهان، فنجحت في تنظيم أكبر عرس كروي في العالم … شكراً قطر.

مقالات ذات صلة