عندما تنتهي “بي بي سي” عربي وتغادر إلى العالم الرقمي

شفان ابراهيم

حرير- بعد 84 عاماً من البث، توقفت عبارة “هنا لندن”، لتنتهي معها حقبة شغوفي السياسة عبر الإذاعة، فالعالم بات يتوجه صوب المنصّات الرقمية. والمؤسف أنه لم يعد في وسع كارهي “السوشيال ميديا” من كبار السّن بعد اليوم الاستماع إلى أبرز الأخبار، وإن كان العالم الفضائي والتكنولوجي حقق البديل المناسب وبقوة خارقة، لكن للإذاعات التاريخية دورها ومكانتها لدى روادها. فالحديث عن “بي بي سي” (BBC) عربي – فارسي، يحمل للشعوب ودول بلدان العالم الثالث ذكرياتٍ وشجونا، حيث الاعتصام أمام أجهزة الراديو للاستماع إلى أخبار العالم، وخصوصا قضايا الشعوب والقوميات التي كانت ممنوعة من كل وسائل الإعلام، وتحوّلت تلك الإذاعة إلى مصدر إلهام وترويج للأخبار حولهم، وبل حتّى لو كان الخبر مبالغاً فيه أو صعب التصديق، فإن مجايلي تلك الفترة تحوّلوا إلى لسان القناة ومروّجي أخبارها ونشراتها.

على سبيل المثال، كان الكُرد والعرب في سورية، والأقوام الإيرانية المختلفة، كحال باقي القوميات والشعوب، ينتظرون نشرتي الصباح والمساء، لمعرفة أخبار الفضاء السياسي العام للعرب والغرب والكرد والفرس والأزديين والبلوش وعرب الأحواز وكل الأقوام الأخرى. كان كبار السن شغوفين بتلك الأخبار، ويملأون المكان صخباً، ما إن يجري ذكر كلمةٍ تخص هويّاتهم وكأنها التغيير المنشود، وكان الشباب يستمعون إليهم بنهم ورغبة عارمة في التعرف على المزيد منهم. ومع بدايات انتشار الستالايات والفضائيات العربية، بقيت الـBBC مصدراً أساسياً للمعلومات والأخبار لدى عشّاق الإذاعات، واستجابت للتغيرات العالمية للإعلام، وأوقفت الخدمات الإذاعية بالقرغيزية والهندية والبنغالية والصينية والإندونيسية والتاميلية والأوردية، وستوصِل رسالتها الإعلامية إلى دول مثل روسيا وأفغانستان وأوكرانيا، كأبرز محاور الخلاف وعصب الصراع الشعبي ما بين الديمقراطية وحرية اختيار التوجّه والأحلاف السياسية وغيرها، وذلك كله عبر منصّات البث الرقمي والتوزيع المناسب ليكون الإعلام الرقمي هو البديل، وهذا انعكاس لمدى نجاح الخدمات التي يقدّمها العالم الرقمي والخدمات التي تؤديها، مع مواصلة الخدمة العالمية للغة الإنكليزية على الصعيد العالمى كهيئة إذاعية 14 ساعة، مع الإعلان عن مواعيد وبرامج جديدة في الوقت المناسب.

وإذا كان الرأي العام الغربي ظاهرة اجتماعية قديمة ومعقّدة، برزت في مدن وعهود شتى كحواضر اليونان والإغريق وبقاع العالم، وفي أواخر القرن الثامن عشر، وأخذت أبعاداً جديدة بنشوء مفهوم الجماهير الغفيرة، وقد شكّلت الثورة الصناعية منعطفاً مهماً في ظهور “المجتمع الجماهيري” الذي يمثل نواة الرأي العام، بالإضافة إلى اختراع الطباعة وانتشار المعرفة والتطورات السياسية الكبرى في العالم، كالحربين العالميتين الأولى والثانية، لتركيز طاقات المجتمعات تجاه المصير الواحد. وفي هذا السياق، أصبح الرأي العام أداة ضغط في الصراعات الدولية واحتواء الأزمات الدولية والضغط على المجموعات السياسية والاقتصادية الداخلية.

تلك الوسائط، إضافة إلى الإعلام الرقمي، ودورها في قياس الرأي العام والتوجهات الشعبية في العالمين العربي والكردي لا تزال من الدراسات الحديثة نسبياً في الوسطين الإعلامي والشعبي. وترتبط حداثة هذه الدراسات، إلى حد كبير، بالمناخ السياسي والاجتماعي السائد، والفجوة الواسعة بين النخب السياسية والشعب الذي كان، حتى وقت قريب، في أغلب البلدان، يتجنّب إبداء الرأي الصريح بشأن القضايا العامة وخوفاً من المساءلة والعقاب، لكن التطور المذهل في تكنولوجيا العالم الرقمي وانتشارها بكثافة على ساحة المتغير الإعلامي ساهم في تعزيز العلاقة الحميمية بين وسائل الإعلام الرقمي والجمهور، بحيث بدأت هذه العلاقة تؤثر، إلى حد كبير، في إدراك تفاصيل الحدث الذي تعالجه هذه الوسائل، ونمط تفاعل الجمهور معه، وتكوين رأي عام اتجاهه، الأمر الذي جعل الإعلام المعاصر يمارس نمطاً جديدا من الدبلوماسية بعيداً عن تلك التي يمارسها السياسيون، نمطا قائماً على ماذا يردّ الناس والجمهور، وكيف للوسيلة الإعلامية أن تصل إلى المتلقي وتُحسِن معرفة رغباته وقياس آرائه وتوجهاته، والتأثير فيها تالياً، وجعلها مؤثرة في حركة ونشاط الشارع. وهو ما بدأت “BBC” بالتحول الكُلي إليه عبر قياس تحدّيات المشهد الإعلامي المتغير.

وربما كان ذلك مؤشّرا واضحاً على دور الإعلام الرقمي لدى الشعوب العربية وغيرها، والتأثير الواضح الذي لعبه “فيسبوك” وغيره من تلك الوسائل في إيقاظ الشعور بالحرية والحاجة للمساواة، لتقول المحطة بذلك إنها مع الجماهير في الخطر والشدائد والرخاء. وإذا ما أخذنا الوسط الشعبي الذي عاش رياح التغيير عبر الربيع العربي، وبإسقاط التوجّه الجديد لمحطة الإذاعة صوب الفضاء الرقمي، نجد أنها تسعى للتغلغل أكثر بين كل الشرائح الاجتماعية، وربما لم تعد المحطة تهتم بشريحة المسنين الذين دأبوا الاستماع إليها، لكن من شبه المستحيل عليهم التأقلم مع وسائط التواصل الاجتماعي.

ومن المتوقع أن تنجح المحطّة في إيجاد تعريف جديد إلى ماهية الرأي العام عبر إعلامها الرقمي، خصوصا وأن الاختلاف الكبير في التحديد سابقاً كان قائماً على أسس أيديولوجية وسياسية، وفقاً للصراع بين مدرستين، الأولى: كان البرجوازيون يقولون عن الرأي العام إنه من مظاهر حرية التعبير، وهي المعيار الأساس في تحديد مسار الرأي العام، منتقدين وسائل التواصل الاجتماعي في المعسكر الاشتراكي السابق، وإنها جزء من أدوات القمع التي كانت تعبّر عن فلسفة الأنظمة القائمة. أما مدرسة الاشتراكيين فكانوا ينظرون إلى الرأي العام بوصفه حقيقة مرتبطة بالوعي الاجتماعي المتطوّر ضمن تطور الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كتعبير مباشر عن طبيعة العلاقات المادية السائدة في ذلك المجتمع، فجاز القول إن الاستبداد كان يتغذّى على أساس أن الضغط والكبت يلزمهما اقتصاد هشّ وفقر مستدام، وهو ما سيكون أحد المداميك في ترسيخ سياساتهم بعيداً عن قضايا الرأي العام. وهو ما يحتّم علينا معرفة المدلول التاريخي والقيمي والفني والتقني لثورة شبكات التواصل الاجتماعي والعالم الرقمي؛ فهي تثير الجمهور عن طريق الإعلام والدعاية والإعلان على منشور أو فكرة قيمية مختلفة. لذا، حركات الإصلاح والتغيير في العالم العربي والإسلامي والكردي مدعوة اليوم إلى الاستفادة من تحوّلات المحطة صوب الثورة الرقمية، إلى أقصى الحدود، في مجالات التنظيم والإدارة والاتصال والإعلام والنضال السياسي بزيادة المعلومات المرسلة، للتأثير على القطاعات المستهدَفة من الجمهور. وعلى تلك الشعوب والحركات السياسية المناهضة لحكوماتها أن تعيد ترتيب حساباتها ومعدّات النشر لديها، والتشبيك العميق عبر المواطنين الصحافيين أو مراسليها أو صفحاتها التي يجب أن تتحوّل من الخاملة الكسولة السطحية، إلى النشطة والإعلاميين الجريئين، فالعالم الصحافي والإعلامي في طريقه إلى التغيير أكثر بعد التحولات التي انخرطت فيها محطة بحجم الـBBC ووزنها، وعلى الرأي العام العربي- الكردي- الفارسي … إلخ أن يلتفت إلى رأي الأغلبية المثقفة والواعية من أبناء المجتمع، وضرورة تعرية المشكلة أو القضية، والسعي إلى توفر مناخ من الحرية، حيث يرتبط الرأي العام أساساً بالمجتمع الذي يعبّر عنه، وهو مستمدٌّ من مقومات المجتمعات نفسها، وهو من وظائف المجتمع، يتأثر بما فيه من تفاعلات، وما يطرأ عليه من أوضاع.

قصارى القول: تعدّدت النظريات والدراسات البحثية المختلفة التي قدمت اجتهادات حول مفهوم (ودور) الإعلام الرقمي ودائرة تأثيراتها المختلفة، والتي منها نظرية التأثير الاجتماعي في القضايا المختلفة. والتي تتناول كيفية ترويج الأفكار التي تعتنقها النخب الاجتماعية والسياسية، المعارضة منها على وجه الخصوص، لتتحوّل إلى ذات قيمة اجتماعية مُحرّكة للرأي العام، ومؤثّرة على الأنظمة الاستبدادية، وهو السبب المباشر لمحاربة تلك الأنظمة مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وبل محاربتها وكراهيتها لها، كما حصل في دول الربيع العربي. ووفّر الإعلام الرقمي مناخاً ثورياً عربياً حادًّا خلال العقود الأخيرة من عمر الدول والأنظمة على اختلاف مسمّياتها وأشكالها. ومنحت مستخدميها فرصاً كبيرة للتأثير والتأثّر بتجارب الشعوب المتحرّرة، وأنماط العيش المختلفة، وبل شكلت وسائل ذلك النوع من الإعلام آلية عبور الأفكار والمعتقدات ووسائل العيش والرفاهية بين الدول الحديثة إلى الدول العربية، من دون أي جواز سفر أو تأشيرة (فيزا) للعبور. ولعل أكثر ضربة تلقتها الحكومات في الربيع العربي عبر الإعلام الرقمي أنها استحوذت على عقل المتلقي، وفتحت أمامه مساحة شاسعة من الخيارات المختلفة والمتنوعة، وأنهت احتكار السلطة وسائل الإعلام وصناعة الرسالة الإعلامية، وكسرت الحدود المفروضة على مدى الحيز الجغرافي للخبر، ونقلته إلى مدى أوسع وأكثر شمولية، لتأتي الـBBC، لتفرض إيقاعها الخاص على المتلقي، عبر ذلك النوع من الإعلام.

مقالات ذات صلة