السياسة أم حرية التعبير؟

مي عزام

حرير- ليس منسياً موقف قادة غربيين من الرسوم المسيئة لرسولنا الكريم، وحجتهم الحاضرة دوماً حرية التعبير، وأنها مكفولة بموجب القانون والقيم الغربية. تصبح هذه الحرية نفسها مقيّدة وسجينة إذا تعرّضت إسرائيل للنقد، ويتحول الأمر إلى تهمة “معاداة السامية”، وهو اتهام يجعل القلم يرتجف في يد الكاتب ويشلّ الريشة في يد الفنان، فما زالت محاكمة روجيه جارودي بهذه التهمة في الأذهان. وأخيراً، في معرض دوكومنتا للفن المعاصر، والذي يعد أهم معارض الفن المعاصر في العالم، ويقام في مدينة كاسل الألمانية كل خمس سنوات، على مدار مائة يوم، وقد بدأ في حزيران الماضي، عرضت جدارية ضخمة لفنانين إندونيسيين، تضمّنت شريطاً مرسوماً بعنوان “عدالة الشعب”، يظهر فيه جنديٌّ ذو رأس خنزير، وعلى خوذته نجمة داود وشعار “الموساد”، في إشارة إلى مساندة المخابرات الإسرائيلية الطاغية سوهارتو الذي حكم إندونيسيا بالحديد والنار ثلاثة عقود. لم تعتبر الجماعات اليهودية النافذة الجدارية فناً له حرية التعبير، بل نجحت في ابتزاز ألمانيا، فرُفعت الجدارية من المعرض، بل نالت الضغوط مديرة المعرض، وأجبرت على تقديم استقالتها. وقد جرى رمي هذه الجدارية بأنها معادية للسامية، ومن المسلمات في ألمانيا منع أي تعبيرات لهذه الصفة.

الدفاع عن حرية التعبير سلاح يستخدمه الغرب، وخصوصاً أميركا، أحياناً كثيرة للضغط على الدول التي تعدّها مارقة، وإيران من هذه الدول، تشهد حالياً احتجاجات ضخمة على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني في أثناء احتجازها لدى الشرطة هناك. وقد عمدت السلطات الإيرانية إلى تدابير احترازية لتبطئ سرعة الإنترنت، لحجب بعض تطبيقات التواصل الاجتماعي حتى لا تتسع رقعة المظاهرات، بمنع التواصل بين الفئات الغاضبة عبر هذه التطبيقات، فسارعت إدارة الرئيس بايدن إلى استغلال الحدث، وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن: “سنعمل على عدم إبقاء الشعب الإيراني معزولاً أو مغيّباً، وسيسمح ذلك لشركات التكنولوجيا الأميركية بتوسيع أعمالها في إيران”. وفي هذا خرق للعقوبات المقرّرة من الولايات المتحدة على إيران، غير أن المهم هنا هو الضغط على النظام الإيراني والمساهمة في زعزعة الاستقرار الداخلي.

وقد اعتادت الإدارات الأميركية استخدام الشركات الأميركية الرائدة في تكنولوجيا المعلومات والمنصّات الرقمية الأميركية الكبرى في تحقيق أغراضها السياسية والنيْل من خصومها ومنافسيها. ويدرك الجميع تراجع هيمنة وسائل الإعلام التقليدية، مقارنة بالإعلام الرقمي، من يتحكّم في قطاع الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي تفوق قوته وتأثيره دولاً كبرى بعدّتها وعتادها. على سبيل المثال، تعدّى مستخدمو “فيسبوك” ملياري شخص في العالم، ولدى إدارته ثروة هائلة من البيانات الشخصية التي يمكن أن تساهم في ترويج أفكار بعينها أو إثارة مظاهرات وثورات وأحداث عنف، وكذلك التأثير على آراء الناخبين في أعرق الدول الديمقراطية، كما حدث في أثناء الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي السابق ترامب، وأثبتت التحقيقات مع شركة كامبريدج أناليتيكا أن شركة الاتصالات البريطانية المذكورة التي ترتكز على البيانات نجحت في التأثير على التصويت في استفتاء بريكست وتلك الانتخابات الأميركية، مستفيدة من البيانات التي حصلت عليها من “فيسبوك”.

تذكر هيلاري كلينتون في مذكراتها التي كتبتها عن فترة تولّيها وزارة الخارجية الأميركية في أثناء الولاية الأولى للرئيس أوباما، وعنونتها “خيارات صعبة”، تذكُر، في معرض حديثها عن مواقفها مما يجري في الشرق الأوسط، أنها طلبت من إدارة تويتر، وكانت قد أعلنت عن توقف خدمتها ليوم لأسباب تقنية، أن تؤجل هذا القرار لأنه سيؤثر على مظاهرات الشباب الإيراني في طهران ضد نظام الحكم هناك، ولو انقطع تواصل المتظاهرين عبر “تويتر” سيؤثر ذلك على سير الأحداث!

.. لا تهتم الدول الكبرى كثيراً بأوضاع حقوق الإنسان خارج أراضيها، ولكنها تتخذ من هذه الأوضاع ذريعة لبسط نفوذها وهيمنتها.

لا أحد عاقل ينكر أهمية حرية التعبير وأنها أحد الحقوق الأصيلة لأي إنسان على وجه الأرض، ولكن علينا أن نتحلّى بالحكمة والقدرة على التمييز بين من يهتم بحقوق الإنسان صدقاً وحقاً ومن يستخدمها أداة ضغط ولدوافع سياسية لا أخلاقية.

مقالات ذات صلة