الاتجاهات الفكرية بين السياقات التاريخية والتصنيفات الثقافية

سيف الدين عبد الفتاح

حرير- لا يزال الأمر المتعلق بالخرائط الفكرية موضع رصد في كتابات تقليدية من مفكّرين ومستشرقين لتبين تلك الاتجاهات. وضمن هذا الجهد استعرض المؤرّخ الأردني علي المحافظة، صاحب المسيرة المتميزة دبلوماسيا وأكاديميا، في كتابه “الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798 -1914 .. الاتجاهات الدينية والسياسية والاجتماعية والعلمية” (الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1975) عوامل النهضة الفكرية عند العرب في القرن التاسع عشر، ومنها الحملة الفرنسية على مصر (1798 -1801)؛ التي فتحت أبواب العالم العربي على الحضارة الغربية الحديثة، بما اشتملت عليه من مبادئ سياسية وأنظمة إدارية وعلوم وآداب وفنون وطباعة وصحافة وغيرها، إضافة إلى البعثات العلمية إلى أوروبا؛ حيث أسهم محمد علي باشا في النهضة العلمية، واتصل ببلادٍ أوروبيةٍ عديدة، مستعينا بخبراء منها، ومرسلًا بعثات للتعليم هناك، وسار خلفاؤه على النهج نفسه.

ومن العوامل أيضا الإرساليات التبشيرية في البلاد العربية؛ حيث بدأت هذه الإرساليات تفد إلى بلاد الشام في القرن السابع عشر، إلا أنها زادت بقوة في القرن التاسع عشر الذي شهد بناء المدارس وتأسيس الجمعيات العلمية والأدبية التبشيرية، وكذلك الطباعة؛ حيث عرف العالم العربي المطابع منذ مطلع القرن السابع عشر، وساهمت المطابع في نشر مؤلفات وكتب عربية قديمة عديدة، وإحياء التراث العربي، وإيصال المؤلفات والكتب المترجمة إلى أيدي الناشئة والمثقفين العرب، وأيضا الصحافة التي ظهرت في مصر في أثناء الاحتلال الفرنسي ولعبت دورا كبيرا في النهضة العربية، وكذلك الترجمة؛ حيث بدأت في بلاد الشام في مطلع القرن التاسع عشر، واقتصرت، في البداية، على الكتب الدينية، ولاحقا اعتمدها محمد علي من وسائل تحديث الدولة المصرية. وكذلك الجمعيات العلمية؛ حيث ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر جمعيات علمية وأدبية لعبت دورا كبيرا في النهضة العربية. وأيضا الاستشراق؛ حيث يعود اهتمام الأوروبيين بالإنتاج الفكري العربي والإسلامي إلى العهود الإسلامية الأولى، وتزايد الاهتمام مع الزمن.

وعن الاتجاهات الدينية ضمن الخرائط الفكرية؛ فرق المحافظة بين اتجاهين: الأول وهو السلفي الذي تشكل من الحركة الوهابية باعتبارها أول رد فعل ديني على مفاسد المجتمع العربي في العصور الحديثة، وجاء مذهب الشوكاني الذي نادى بالأفكار الوهابية نفسها، إلا أنه امتاز عنه باجتهادات وآراء أصيلة وجريئة، تدلّ على فهم عميق للعقيدة الإسلامية ونظرة علمية وموضوعية للأصول والأحكام الدينية، وكذلك الألوسيان في العراق؛ حيث جمع أتباع هذا المذهب بين مبادئ الدعوة الوهابية في الاعتماد على القرآن والسنة ومحاربة البدع الدينية والطرق الصوفية، والاهتمام بالعلوم غير الدينية، مثل التاريخ والفلك، وأيضا الحركة السنوسية التي نجحت في إصلاح المجتمع البدوي الليبي، وأقامت سلطة دينية وسياسية، ونشرت العلم والمعرفة في الصحراء الأفريقية. أما حركة المهدي في السودان فقد تبنّت الدعوة إلى العودة بالإسلام إلى ما كان عليه في العهود الأولى، والتوحيد بين المذاهب السنية والانفراد بمذهبٍ اجتهاديّ خاص.

عرف العالم العربي المطابع منذ مطلع القرن السابع عشر، وساهمت المطابع في نشر مؤلفات وكتب عربية قديمة عديدة، وإحياء التراث العربي.

وشكّل الاتجاه الثاني التعريف بقيادات الفكر الإسلامي الحديث، ومنهم جمال الدين الأفغاني الذي دعا إلى وحدة الشعوب الإسلامية وإزالة الفوارق بين الفرق الإسلامية، ومحمد عبده الذي نشأت دعوته في التجديد الديني على تطهير الإسلام من البدع والضلالات، والعودة به إلى نقائه الأول، وإعادة النظر في عرض المذاهب الإسلامية على ضوء الفكر الحديث أو التوفيق بين الدين والعلم، والدفاع عن الإسلام ضد التأثيرات الغربية، وإصلاح التعليم العالي الإسلامي، ورشيد رضا وتقوم آراؤه في التجديد والإصلاح على استقلال الفكر وحرية العقل في العلم واجتناب تقليد العلماء، وإبطال البدع والخرافات والتقاليد والعادات التي أفسدت العقائد والأخلاق، وإصلاح نظام التربية والتعليم، والدفاع عن الإسلام بالردّ على الملاحدة.

وتناول المؤلف الاتجاهات السياسية التي عرفتها دول النهضة العربية، ومنها تيار الجامعة الإسلامية؛ الذي ظهر رد فعل للغزو العسكري والثقافي الغربي، للعالمين العربي والإسلامي. ويعتبر أن الوحدة الإسلامية الطريق الوحيد لمقاومة هذا الغزو. أما عن تيار الرابطة العثمانية فقد كانت الدولة العثمانية إسلامية بكل معنى الكلمة، وظهر التيار بشكل واضح في مصر بعد الاحتلال البريطاني لها عام 1882. أما تيار الوطنية الإقليمية فهو مفهوم حديث عند العرب، وقد اعتمد روّاده على ما كتبه الطهطاوي عن حبّ الوطن، إلا أن هذه الدعوة تشعّبت وتطرّفت في بعض الأحيان. وظهر تيار القومية العربية مع بداية النهضة الفكرية العامة، وتشكّل في عدة جمعيات، منها جمعية الإخاء العربي ـ العثماني، والجمعية القحطانية، والمنتدى الأدبي، وجمعية الجامعة العربية، وجمعيات كثيرة شكلت هذا التيار.

لم تبرز الدعوة إلى مشاركة المرأة للرجل في الأعمال وفي الشؤون العامة، إلا في مطلع القرن العشرين.

واستعرض علي المحافظة الاتجاهات الاجتماعية، في المجتمع العربي الذي عرف في العهد العثماني حالة من غياب التجانس والتماسك، وقد شهد القرن التاسع عشر، في نهايته، انهيار الأطر الاجتماعية القديمة، وتراجعت القيم الاجتماعية القبلية، لتحلّ محلها قيم جديدة مستوردة من الغرب. وبرزت عدة اتجاهات، أبرزها البحث في أسباب تخلف المجتمع العربي، حيث انقسم المفكرون إلى فريقين، أحدهما سلفي أرجع أسباب التخلف إلى ابتعاد المسلمين عن الدين القويم، والآخر ليبرالي غاص أعضاؤه في تراث الماضي وأوضاع الحاضر وتحرّي التطورات السياسية والقيم الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي أدت إلى هذا التخلف، وخرج بتحليل علمي سليم للواقع كشف عن الأمراض الحقيقية التي تنهش المجتمع.

ودعا المفكّرون إلى الحرية بمفهومها الشامل، وطالبوا بالحريات الفردية، مثل حرية التفكير والتعبير والاجتماع والحريات السياسية، مثل الحياة النيابية ومبدأ الشورى في الحكم. ومن بين الاتجاهات الاجتماعية أيضا اتجاه الدعوة إلى العدالة الاجتماعية، وكان أول من نادى به رفاعة الطهطاوي، حيث طالب باعتبار العمل الأساس للقيمة، وتبعه في ذلك آخرون، وتطوّر هذا الاتجاه للحديث عن مساوئ الرأسمالية وعلاقتها بالاستعمار ونقد الاشتراكية الغربية والحديث عن اشتراكية إسلامية مستمدّة من أصول الدين ومن أخلاق العرب الأولين، وكذلك اتجاه تحرير المرأة الذي نال اهتماما واسعا من روّاد النهضة، خصوصا في مجال تعليم المرأة، ولاحقا تفرّع هذا الاتجاه إلى الحديث عن المساواة التامة بين المرأة والرجل، في مقابل من تمسّك بوجود فارق كبير لصالح الرجل. وبشكل عام، لم تبرز الدعوة إلى مشاركة المرأة للرجل في الأعمال وفي الشؤون العامة، إلا في مطلع القرن العشرين.

أدرك العرب منذ مطلع القرن التاسع عشر أن من أسباب تفوق أوروبا وقوتها اعتمادها على العلوم التطبيقية وتطويرها.

وأشار الكاتب إلى التقدّم العلمي الذي شهده القرن التاسع عشر بشكل عام، خصوصا حينما تمكّن الإنسان من اكتشاف قوة البخار واستعمالها، وكانت الحملة الفرنسية على مصر بداية اطلاع العرب على منجزات أوروبا العلمية. ومن تيارات هذا الاتجاه، المدارس والكليات العلمية في مصر والشام؛ حيث انفتح محمد علي على الحضارة الغربية في انطلاق سعيه إلى تحديث مصر وجعلها دولة عصرية ذات جيش نظامي وقوي. وأوفد البعثات العلمية إلى العواصم الأوروبية واستقدم الخبراء وأنشأ المدارس والمعاهد المختلفة. وعن المؤلفات العلمية العربية؛ من خلال ترجمة مؤلفات علمية غربية عديدة إلى لغتهم والتأليف بها، وأصدروا المجلات التي تُعنى بالعلوم بشكل عام، والعلوم التطبيقية أو التجريبية منها بوجه خاص. وعن موقف العرب من التقدّم العلمي، أفاد الكاتب بأن العرب أدركوا منذ مطلع القرن التاسع عشر أن من أسباب تفوق أوروبا وقوتها اعتمادها على العلوم التطبيقية وتطويرها، وقد تأثر العالم الإسلامي بالنظريات العلمية الغربية بصورة كبيرة.

حرص الكاتب من خلال تناول السنوات التي تقارب 120 عاما، منذ الحملة الفرنسية حتى الحرب العالمية الأولى، على تناول الاتجاهات على المستويات الأربعة التي يراها مؤثرة في عملية النهضة والعمران، وهي الاتجاهات الدينية والسياسية والاجتماعية والعلمية بصورة مكثفة، ومعمّقة بالرصد والشرح والتحليل. ويعدّ الكتاب مصدرا مهما في التعرّف على هذه الفترة، وعلى أبرز مفكريها واتجاهاتها، وتياراتها، وأفكارها، ومؤسّساتها.

مقالات ذات صلة