صوت التثبيت في مواجهة صوت التثبيط

الشيخ كمال الخطيب

حرير- في كل زمان وفي كل مكان وخاصة في الزمن الصعب وعند اشتداد البلاء والمحن، تظهر فئة المحبطين والعاجزين والمثبطين ليقوموا بدورهم ومهمتهم التي يتقنونها. إنها مهمة التيئيس والخذلان والتشاؤم يزرعونه في نفوس الناس، فهؤلاء لا ينظرون إلى الواقع ولا إلى المستقبل إلا بنظارة سوداء داكنة ومن خلالها يحكمون على الحاضر بل ويقررون المستقبل الذي ما يزال في علم الغيب، وغالبًا ما تجد أن صوت هؤلاء وصراخهم مرتفع في تأكيد صواب موقفهم مستندين إلى غياب الدليل المادي الملموس على أن الحال سيكون خيرًا مما الأمة فيه.

هذه الفئة الخالية من الإيمان هي ليس فقط أنها فئة مترددة ومرجفة تهزها الأحداث يمنة ويسرة، وإنما هي فئة مريضة، ومرضها هو في أهم أعضائها، إنه القلب، وقد قال ﷺ: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”. ولأن هذه الفئة كما تقدم موجودة في كل زمان ومكان، فإنها كانت موجودة في زمن وعهد رسول الله ﷺ حيث ولخطورة دورها وتأثيرها السلبي فقد فصل القرآن صفات أصحابها وفي مقدمة تلك الأوصاف مرضى القلب {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًاوَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًاوَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} آية 10-12 سورة الأحزاب.

إن اتباع مدرسة التيئيس والتخذيل والإحباط وإشاعة الخوف في الصف والمجتمع يمكن أن يكونوا أفرادًا عاديين، ولكن خطرهم يعظم لما يكونوا أصحاب كلمة مؤثرة وفي مواقع مهمة وبين أيديهم مقدرات وإمكانات ووسائل تأثير يسهل عليهم من خلال نشر أراجيفهم، وهذا ينطبق على زعماء وقادة رؤساء وملوك لدول لكنهم ينتسبون إلى مدرسة التثبيط.

وإن التاريخ قد سجل لنا وكتب بأحرف العار والشنار قصة ضرغام وشاور الوزيرين الشيعيين في مصر الفاطمية العبيدية اللذين تحالفا مع الصليبيين إبان الزحف الصليبي على المشرق الإسلامي، وقد سجل التاريخ أن ضرغام وشاور كان يطلقان عبارة فيها من السخرية ما فيها، وفيها من عناصر التخذيل والتثبيط ما فيها، فكانا يقولان: “جاء الفرنج”، أي لم يأت الفرج وإنما أتاكم الفرنج.

لا بل إن عدو هذين الفاسدين ومن سار على نهجهما ليسوا هم الصليبيين المحتلين لبلاد المسلمين وأرضهم ومقدساتهم، وإنما هو صلاح الدين الأيوبي الذي كانوا يطلقون عليه وصف “هلاك الدين” بدل صلاح الدين.

إن شخصية ضرغام وشاور والدور الذي قاما به في تثبيط الأمة، لهو نفس الدور الذي قام به لاحقا الوزير الشيعي في بغداد ابن العلقمي خلال حكم الخليفة العباسي المستعصم بالله والذي تجاوز دوره التثبيط والتيئيس وصل إلى درجة التخابر معهم واطلاعهم على نقاط الضعف في أسوار بغداد وكيف يسهل عليهم احتلالها.

إن مدرسة ضرغام وشاور وابن العلقمي ما يزال لها تلاميذ وأتباع وأشياع من زعماء وأمراء وقادة وسادة، بل إن في تلك المدرسة مشايخ وعمائم بيضاء وسوداء هم أركان في مدرسة التثبيط وإن زعموا الانتساب إلى مدرسة التثبيت.

قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصية أوصى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة لاتباعهم الحق والحق ثقيل على النفوس، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة لاتباعهم الهوى والهوى خفيف عن النفوس”. ولذلك فقد حذر الله تعالى ونهى عن اتباع الهوى لما قال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} آية 26 سورة ص. وإن اتباع الهوى يقود صاحبه إلى السقوط والتردي، كما قيل: “ومن اتبع الهوى فقد هوى”.

إن اتباع الهوى هو فعل الصغار، أما الكبار فإنهم القادرون على مخالفة أهوائهم وتحمل الأعباء الثقيلة، كما قيل: “لا ندعو الله أن يخفف حملك ولكن ندعو الله أن يقوي ظهرك”. فأصحاب طريق الحق الذي تحدث عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه هم الذين يسيرون على طريق أولي العزم من الرسل، والذين أمر الله رسوله ﷺ بأن يسير على طريقهم وأن يكون معهم {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} آية 35 سورة الأحقاف.

وإن سيرة النبي ﷺ قد علمتنا أنه في الزمن الصعب، وخاصة حين يدق أصحاب مدرسة التثبيط والتيئيس والإحباط الأسافين بين أبناء المجتمع، عندها كان يعلو ويصدع صوت التثبيت والأمل ولم يكن يومها إلا صوت النبي ﷺ يكبر ويقول: الله أكبر إني أرى قصور الشام، إني أرى قصور فارس، إني أرى قصور صنعاء. عندها دبت الحياة وعاد الأمل في نفوس أريد لها أن تيأس وأن تحبط، وإذا بهم أي الصحابة المؤمنون الذين كانوا قبلها في حال وصفه الله بالقول: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاهُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} آية 10-11 سورة الأحزاب، فسرعان ما تغير حالهم ليصبحوا في الوصف الذي وصفهم الله به {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًامِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} آية 22+23 سورة الأحزاب.

وإن مثل ما حصل يوم الأحزاب من رسول الله ﷺ من موقف التثبيت في مواجهة التثبيط وموقف الأمل في مواجهة اليأس والإحباط، فكذلك كان يوم حنين حين أصاب الهلع والخوف المسلمين وهروب الكثيرين منهم أمام صدمة المفاجأة، فوقف النبي ﷺ ينادي بأعلى صوته: “أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب” وسرعان ما عاد الفرسان والتفوا حوله ﷺ.

لقد كان الحال يوم حنين بالوصف الذي عنه الله تعالى قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} آية 25 سورة التوبة، وبعد أن ارتفع صوت التثبيت وصدق الاستعانة بالله تغير الحال، عنه الله سبحانه وتعالى قال: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} آية 26 سورة التوبة.

وهكذا دائمًا في اللحظات الحرجة والساعات الصعبة الحاسمة، وحين يرتفع صوت الضفادع من وسط وحل المستنقعات، وحين تنعق الغربان من بين آثار الخراب والدمار تريد أن تحبط وتُيَئس أهل الإيمان لسان حالها يقول: “هلك المسلمون” وإذا برسول الله ﷺ يقول: “من قال هلك المسلمون فقد أهلكهم”. بل إنه ﷺ يوصيهم في ظروف الشدة والبلاء وعند احتداد الكرب واسوداد الليل بالقول: “أفضل العبادة انتظار الفرج”. وقوله ﷺ: “وانتظار الفرج عبادة”.

وما أجمل نفس المعاني من كلام رسول الله ﷺ صاغها الشاعر بقوله:

لا تيأسن إذا ما ضقت من فرج يأتي به الله في الروحات الدلج

فما تجرع كأس الصبر معتصم إلا أتى الله بالفرج

إن مدرسة التثبيط والتيئيس هي التي تسعى ليعيش أبناء الأمة في حالة ليس فقط من اليأس، وإنما لتغييب أن لهذا الكون إلهًا يدبر أمره ويغيره من حال إلى حال ولا يعلمون ولجهلهم أننا في مدرسة التثبيت واثقون إلى حد اليقين بأن الله سيكشف عنا ما نحن فيه.

إن الذي ردّ موسى بعد غيبته وردّ يوسف بعد السجن والجبّ

لسوف يكشف عنا ما ألمّ بنا من الهموم ويجلو داجي الخطب

نعم في اللحظات الحرجة قال الله تعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ} آية 46 سورة طه. وهو الذي سبق وقال لأم موسى لما كان رضيعًا: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} اية 7 سورة القصص.

لا تخافي.. ألقيه في اليمّ ألقي سيردّ البحر الخضمّ العريسا

حين يغدو فؤادك البحر بحرًا فارغًا فارغًا سيرجع موسى

سيرجع الإسلام، سيرجع مجدنا وعزنا ولن نخاف على الإسلام وأهله.

إلهنا ومولانا وكيف نخاف وأنت الله، وكيف نيأس وأنت الله، وكيف نحبط وأنت الله

لأنك الله لا خوف ولا قلق ولا غروب ولا ليل ولا شفق

لأنك الله قلبي كله أمل لأنك الله روحي ملؤها الألق

وكيف لا نتفاءل وأنت الذي قلت: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة