الباتريوت الذي قد يذيب الجمود في أوكرانيا

مالك ونوس

حرير- ظهرت في الفترة الأخيرة إشارات ودلالات كثيرة أحاطت بملف الحرب الروسية على أوكرانيا، أهمها زيارة الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، واشنطن، في 21 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وخطابه أمام أعضاء مجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس) لإقناعهم بمواصلة تقديم المساعدات العسكرية لبلاده. ولا يمكن التأكّد من أن الدلالات المعنوية للزيارة تعد أهم من دلالاتها المادية، إلا عندما نقرأ ردود الفعل الروسية عليها، خصوصاً أن تزويد أوكرانيا بمنظومة الدفاع الصاروخية الأميركية من نوع باتريوت المتقدّمة أحد أهم دوافعها. لذلك، ليس من المستبعد أن نشهد في الأيام، أو الأسابيع، المقبلة، انكساراً للجمود الذي طرأ على الحرب وعلى الملف الأوكراني، وربما الدفع باتجاه التسوية، خصوصاً بعد اعتماد روسيا سياسة الأرض المحروقة، قبل أشهر، عبر استهداف البنية التحتية المدنية، وهو ما يعكس فشلها في تحقيق أهداف الحرب.

لا يمكن تجاهل المشهدية التي حفلت بها زيارة زيلينسكي، وأهميتها بما ترسله من رسائل إلى الطرف الروسي الذي احتجّ عليها، حين سارع السفير الروسي في واشنطن بتصنيفها “أعمالاً استفزازية” ستكون لها عواقب وخيمة. وهو ما يدلّ على أن الطرف الروسي يريد أن يظهر نفسه كأنه الوكيل على أوكرانيا وعلى سياستها الخارجية وحركة مسؤوليها وكأنها إقليم تابع لعرش الكرملين. ومن الأمور التي يمكن أن تكون قد سبّبت استفزازاً للروس قدرة زيلينسكي على الخروج من بلاده، ووصوله إلى واشنطن، على الرغم من سيطرة روسيا على أجواء البلاد. كما أن الشيء الأهم الذي يمكن أن يكون موضع استفزاز أكثر، وربما حسدا، مشهد دخول زيلينسكي مبنى الكونغرس بلباسه الميداني الذي ظهر فيه خلال أشهر الحرب العشرة، وليس باللباس الرسمي، ثم ملاقاته من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ بالتصفيق الحاد، وتزاحمهم لمصافحته وكأنه بطل وطني.

ويأتي مشهد الاحتفاء هذا في وقت نشرت صحيفة وول ستريت جورنال تقريراً ذكرت فيه أنه، وبعد مضي عشرة أشهر على اندلاع الحرب، يبدو الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، معزولاً. إذ إضافة إلى العقوبات والحصار الغربي عليه، من المعروف أن غزوه أوكرانيا جعل عدد أصدقائه يقلّ، ولم يعد موضع ترحيب في عواصم كثيرة، بعدما اعتقد أن حربه ستكون سريعةً وتأتي بالنصر الذي سيكلّل بلاده قطباً مقابلاً للقطب الأميركي. إلا أن الحرب امتدت أشهراً ولم تحقق أهدافها، بل إن من كانت تخطط لإقصائه، وربما لقتله، ها هو يختال مزهوّاً بين المشرّعين الأميركيين الذين كانوا ينتظرون إحاطته بواقع الحال السياسي والميداني، واستشرافه مستقبل الصراع ليقرّروا مدى إمكانية الاستمرار في إمداده بما يريد من أسلحة متطوّرة. علاوة على ذلك، تأتي الزيارة في وقت تستمر فيه القوات الروسية في استهداف البنية التحتية المدنية الأوكرانية، وهو ما قد يزيد من تعاطف المشرّعين والجمهور الأميركي مع الأوكرانيين ورئيسهم، بسبب تزامنها مع حلول فصل الشتاء القارس. ولا يمكن، في هذا الإطار، تجاهل اتجاه منظمات حقوقية دولية إلى اعتبار هذه الهجمات بمثابة جرائم حرب، والتي قد يواجه القادة الروس، بسببها، خطر الاعتقال إذا ما خرجوا من بلادهم، حتى لو انتهت الحرب بمعاهدة سلام بين طرفيها.

أما دلالات الزيارة المادية فيمكن حصرها في تعهد الرئيس الأميركي، جو بايدن، تقديم منظومة باتريوت المتطوّرة لأوكرانيا، لمساعدتها في التصدّي للهجمات الصاروخية الروسية، وبإمكانية كسب تعاطف الجمهوريين مع المآسي التي يسببها دمار البنية التحتية، فهم سيتسلمون رئاسة مجلس النواب، بداية يناير/كانون الثاني المقبل، وبينهم مجموعة تعترض على الدعم الأميركي لأوكرانيا. فبعد فشل العمليات العسكرية البرّية، ونجاح كييف في إعادة السيطرة على مناطق احتلها الجيش الروسي، ركّزت موسكو قبل أشهر على استهداف أنظمة الطاقة التي تؤمّن الدفء في الشتاء، ومصادر الإمداد بالمياه والاتصالات والمواصلات بالصواريخ البالستية لتدميرها، ربما لتأليب المجتمع الأوكراني ضد رئيسه وقادته. ومن الملاحظ أن أوكرانيا لم تحظَ بأسلحة هجومية، على الرغم من مناشدات زيلينسكي المستمرّة للغرب بتزويده بها، إلا أن نظام باتريوت بنسخته المتقدّمة كفيل بأن يغيّر المعادلة على الأرض، لقدرته على إسقاط الصواريخ الروسية بعيدة المدى من الجيل الجديد، من قبيل كاليبر وكنجال وغيرها، التي تعد باهظة الثمن، وتفاخر موسكو بها.

ومن المفارقات أنه في حين أظهر زيلينسكي عزيمةً قوية، حين زار جبهة باخمونت الخطيرة قبل توجهه إلى واشنطن، اعترف الرئيس الروسي في اليوم ذاته بصعوبة الوضع في المناطق الأوكرانية التي ضمّتها روسيا، وذلك في حديثه المتلفز الموجّه إلى موظفي أجهزة الأمن في عيدهم. ومعروفٌ أن الروس تحدّثوا مراراً عن صعوبة الاحتفاظ بالمناطق التي احتلوها. كما لا يمكن إغفال نقص القذائف الذي يعانون منه، ونقص العديد (الجنود) الذي جعل بوتين يعلن التعبئة الجزئية. من جهة أخرى، وبينما قال زيلينسكي في الكونغرس إن “أوكرانيا حية وتقاتل ولن تستسلم”، قال الرئيس الروسي في اليوم التالي، في مؤتمرٍ صحافي: “هدفنا ليس إطالة النزاع إلى ما لا نهاية، بل إنهاء هذه الحرب”. وهذه هي المرّة الأولى التي يستخدم بوتين فيها كلمة “الحرب” للدلالة على ما أسماها “العملية العسكرية الخاصة” فهذه الكلمة ممنوعة من التداول، وحُكم على معارضين بالسجن ثماني سنوات لأنهم استخدموها، عملاً بقانون ملاحقة من ينشر معلومات مضلّلة عن الجيش الروسي الذي أصدره بوتين عشية غزوه أوكرانيا.

استخدام بوتين كلمة “الحرب”، وحديثه عن صعوبة الوضع في الجبهات، هما اعترافٌ مستجدّ بالواقع الذي أنكره الروس طوال فترة الحرب. ثم يأتي الباتريوت الذي لو لم يعرف الروس خطورته على صواريخهم البالستية لما دانوا أميركا لتزويدها أوكرانيا به، وجميعها إشاراتٌ إلى إمكان حدوث تطوّرات جديدة تدفع باتجاه كسر الجمود، وربما البدء بالحل الدبلوماسي. ففي هذا الصراع لا يمكن لأوروبا وأميركا التراجع والتوقف عن دعم أوكرانيا، لأن ذلك سيزيد من شهية موسكو للتوغل في القارّة ويُظهر الغرب بمظهر المنهزم، خصوصاً إدارة بايدن التي تطاولها السهام الداخلية من كل صوب. كما لا يمكن للأطراف الاستمرار في حربٍ تستنزف الجميع، والتي يبدو أنها دخلت مرحلة عضّ الأصابع، فمن يتألم أكثر ويصرخ أولاً يكون هو الخاسر، ومن الواضح أنه ليس زيلينسكي العائد من واشنطن بسلالٍ عامرة، ولا أميركا ولا أوروبا من ورائه.

 

مقالات ذات صلة