قمّة الانفصال عن الواقع

محمود الريماوي

حرير- للأسف الشديد، لا تعدو القمة العربية الحادية والثلاثون التي تلتئم في الجزائر الثلاثاء المقبل، كونها مظهرا من مظاهر انفصال سياسات رسمية عربية عديدة عن الواقع، إذ مجرّد انعقادها بالطريقة الروتينية نفسها بحد ذاته تأكيدٌ على هذا الانفصال. ولا تنفع النيات الحسنة متى ما وجدت، في التغطية على هذا الأمر. والجمهور العربي في المشارق والمغارب، وبالذات الأجيال الشابة منه، هو أبعد ما يكون عن الانشغال بهذا الحدث الروتيني أو الالتفات إليه .. حتى أن انقطاع القمة عن الانعقاد خلال السنوات الثلاث الماضية، ثم العودة إلى الانعقاد، لم يوفرا فرصة للتشويق. ذلك أن أحدا ربما، باستثناء الجهاز البيروقراطي لجامعة الدول العربية، لم يفتقد هذا الحدث، ولم يلحظ غيابا للغائب حتى ينتظر عودته، فقد كان الجمهور العربي منشغلا بمتواليات الاحتراب الداخلي والانقسامات الأهلية، وبتغوّل منظومة الاستبداد والفساد، وذلك بعد وأد موجة الربيع العربي، وزيادة موجات اللاجئين، رغم التنكيل بهم، فيما ترتقع نسبة من يتوقون لهجرة أوطانهم، وبعضم يلقون أنفسهم صيدا ثمينا لتجار التهريب في مياه المتوسط، ممن تتوارد الأنباء عن غرقهم المأساوي بصورة دورية.

في معرض تفاؤله بانعقاد اللقاء على أرض بلاده، يصرّح وزير الخارجية رمطان لعمامرة بأن “الجزائر ستوفر من خلال القمة لرؤساء الدول والحكومات العربية وقادة الدول والمؤسسات الدولية والإقليمية أرضية لإعطاء فرصة أخرى للدبلوماسية والسلام في تسوية النزاعات التي تعرّض الأشخاص للخطر وتهدد رفاهية الجميع”. ولا شك أنه طموح جميل وجذّاب، لولا أن الواقع يشهد أن أطرافا عربية تساهم بقسطها في النزاعات وإشعال الحرائق بصور مختلفة، وأن الإقليم العربي أو الإطار القومي لم يعد له محل في الاهتمام، بل بات من سقط المتاع، إذ تتقدم المصالح الذاتية .. مصالح الأنظمة والمنظمات والمليشيات على أي اعتبار وطني آخر، فما بالك بما يتخطى ذلك إلى “البيت العربي” الذي كان، والذي بات موضوعا للتندّر لدى السياسيين الجدد. وكم يبدو بعيدا وغائرا في الذاكرة في حضرة الحديث عن تسوية النزاعات ما كانت تُقدم عليه أطراف عربية، مثل الكويت وتونس والجزائر، من مبادرات لـ”رأب الصدع”، كان يتم استقبالها باحترام واهتمام من أطراف متنازعة، إذ تغيّر الوضع الآن، وبات يُنظر إلى أي محاولة من هذا القبيل على أنها تدخّل في الشؤون الداخلية. وعليه، يتساءل المرء عن نوعية الأرضية التي يطمح لتوفيرها رئيس الدبلوماسية الجزائرية، وبعدما أخفقت جهود مغاربية في إطفاء النزاع في دولة مغاربية هي ليبيا، وعلى مدار عشر سنوات تقريبا، وذلك حتى لا يتطرّق المرء إلى النزاع المغربي الجزائري الذي يستوي كاستعصاء غير قابل، للأسف الشديد، للاختراق الدبلوماسي، بل وحتى للاقتراب منه، علما أن إخفاقات المشرق العربي أكبر وأدهى، من سورية إلى لبنان فالعراق واليمن والسودان.

يقتضي الواجب الدبلوماسي المرعي من البلد المضيف للقمة إشاعة أجواء من الأمل وتحفيز الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية على المشاركة النشطة، وعلى أعلى المستويات، غير أن المرء يشفق على محاولات تجشم عناء هذه المهمة الجليلة والثقيلة، في ظروفٍ لا تسمح سوى بإبداء اللياقات المعهودة في مثل هذه المناسبة. ومن ذلك ما يجري من تبشير بأن تكون هذه القمة قمّة فلسطين، وقمة التمسّك بالمبادرة العربية للسلام (لعام 2002، والداعية إلى سلام عربي شامل مع الدولة العبرية، مقابل انسحاب كامل من الأراضي المحتلة). بل تتحدّث التحضيرات للمناسبة، على مستوى كبار المسؤولين والمندوبين إلى جامعة الدول العربية، عن الالتزام بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس. وللمرء هنا أن يتساءل: ماذا عن الاتفاقيات الإبراهيمية التي أبرمت خارج آليات التسوية العربية الإسرائيلية، وجرى تقديمها قراراتٍ بإقامة علاقات ثنائية لا ترتبط بأي شيء خارجها؟ وهل يكفي اتفاق الفصائل الفلسطينية في الجزائر، بجهود حثيثة بذلها البلد المضيف، لإحياء الاهتمام بقضية فلسطين على المستوى الرسمي العربي، وإعادة وضع هذه القضية على أجندة السياسات الإقليمية؟ لقد عبرت مياه غزيرة تحت هذا الجسر، وبات يُطلب من الرازحين تحت الاحتلال القبول بحلٍّ على شاكلة “سلام اقتصادي” مع دولة الاحتلال.

ومع ذلك، تفيض القضايا والشواغل العربية عن أن تتمحور حول مسألة واحدة، مثل تغوّل الاحتلال الاسرائيلي وانتفاخه واندفاعه إلى شنّ حرب بلا هوادة على فكرة السلام، إذ يغصّ الواقع العربي بالمصاعب والتحدّيات والإخفاقات، ويضمحل دور جامعة الدول العربية التي تعكس الواقع العربي.. هذا الواقع الذي بات يضيق بوجود مؤسسة قومية جامعة، حتى لو كانت مشلولة، وهذا يفسر غياب الاهتمام الرسمي العربي بهذه القمّة التي بالكاد يأتي أحد على ذكرها وقبل أيام فقط من موعدها المقرّر.

وقد يكفي القول عن الواقع العربي السعيد إن دولاً عربية مهدّدة بالإفلاس أو ما يقترب منه تعلق آمالها الراهنة والمستقبلية على صندوق النقد الدولي، وإن دولاً باتت الواحدة منها تصنّف في منزلة اللادولة، وذلك لغياب حكم القانون فيها، بل غياب الحكم المركزي واضطرابه، وللتحكّم الفئوي في مفاصلها من أطرافٍ ذات سطوة، ومع ارتباطات خارجية سافرة، فيما تتدهور قيمة عملات وطنية إلى درجة صفرية، وتزدهر الأسواق السوداء والموازية، وتتفشّى البطالة، ومعها العوز وحتى حافّة الجوع، مع استشراء العنف المجتمعي والمليشياوي والفردي.

وأمام هذا المشهد الكئيب، بمختلف جوانبه وتمثلاته، لا يبقى أمام هذه القمة العربية سوى أن تُحلّق عاليا، وتردد عبارات جاهزة عفا عليها الزمن وينكرها الواقع، مثل التضامن العربي والعمل العربي المشترك ومواجهة التحدّيات ورفض التدخلات الخارجية وسلامة الممرّات المائية الدولية وحفظ الحقوق العربية في المتوسط، والالتزام بميثاق الأمم المتحدة وقراراتها والمضي على طريق التعاون الاقتصادي التكاملي والتنمية الشاملة المستدامة، وتمكين الشباب والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة ورعاية الطفولة .. إلى آخره.

مقالات ذات صلة