ميرفت أمين: “ممنوع الاقتراب أو التصوير”.

سليمان المعمري

لا أظن أن ميرفت أمين، الفنانة المصرية المعروفة، توقعت وهي ذاهبة يوم الأثنين الماضي لأداء واجب العزاء في المخرج علي عبدالخالق أن تسحب منه البساط وتصبح هي الخبرَ لا هو. وبدلًا من أن تهتم الفضائيات والصحف العربية ووسائل التواصل الاجتماعي بسيرة المخرج السينمائي الراحل وأفلامه المهمة، إذا بها تركّز خلال نحو أسبوع على صورة ميرفت أمين في العزاء بملابسها السوداء ووجهها الشاحب الخالي من أي مساحيق تجميل وهي تقعد شاردة حزينة وقد بدت عليها علامات التقدم في العمر.
انقسم الناس حول الصورة بين متذكّرٍ بكثير من النوستالجيا لزمن ميرفت أمين فاتنةِ الجمال التي غنى لها عبدالحليم حافظ قبل أكثر من خمسين عامًا أغنيته الشهيرة “يا خليّ القلب”، وبين متنمِّر على ما فعله الزمن بالفنانة الجميلة، دون أن ينتبه – أي هذا المتنمر- أن التقدم في العمر ليس وصمة عار، وأن لكل مرحلة عمرية جمالها الأخاذ. وهناك فريق ثالث أبدى غضبه الشديد من المصوّر الذي لم يحترم قدسية العزاء من جهة، وانتهك خصوصية إنسان منشغل بحزنه من جهة أخرى.
هذا الفريق الثالث يعيدنا إلى سجال قديم متجدد حول الأخلاق المهنية للصحافة بشكل عام، ومهنة المصوِّر بوجه خاص. علقت إحدى متابعات صفحة الشاعر السوري هاني نديم على فيسبوك على انتقاده لمُلتقِط صورة الفنانة ووصْفه بـ”الباباراتزي التافه” بأن هذا المصور لم يفعل شيئًا سوى أنه صوّر الواقع. وفي الحقيقة فإن هذه هي مهنة المصوّر بالفعل، ولكن ماذا لو تسبب ذلك في أذى لمن التقطتْ صورته؟. لا شك أن ميرفت أمين تأذت معنويًا بهذه الصورة التي لم تسهم في أي منفعة عامة يُتَذَرَّع بها عادة لتحويل خصوصية المرء إلى شأن عام.
لتوضيح هذه النقطة نعود نحو ثلاثين عامًا للوراء لنتذكّر صوة شهيرة نشرتها “نيويورك تايمز” (تحديدا في عددها الصادر في 26 مارس 1993م) تصوّر طفلًا في قرية “أيود” بجنوب السودان شبه يحتضر وهو لايزال يقاوم الموت محاولًا الحبو تجاه مركز المعونات الغذائية، بينما يقف بالقرب منه نسر يراقبه باهتمام تأهبًا للانقضاض عليه. التقط هذه الصورة المصوّر الجنوب إفريقي كيفن كارتر، ولأنها صورت الواقع بالفعل، ونبهت العالم إلى مجاعة جنوب السودان، فقد نال عنها في العام التالي (1994) أكبر جائزة يحلم بها مصوّر أو صحفي وهي جائزة بوليتزر. لكن الجدل حول هذه الصورة لم ينته حتى اليوم. إذْ برز تساؤل أخلاقي مهم: لماذا لم يحاول المصوّر إنقاذ الطفل وإعطائه الطعام بدلًا من الاكتفاء بتصويره؟.
للإجابة عن هذا السؤال نعود حوالي عشرين سنة أخرى للوراء، وتحديدًا إلى يوم 8 يونيو 1972م عندما التقط المصوّر الفيتنامي الأمريكي نيك أوت الذي كان يعمل لوكالة أسوشيتدبرس صورته الشهيرة “طفلة النابالم” التي تعد من أكثر صور الحرب شهرة في التاريخ، ونال عنها هو الآخر جائزة بوليتزر سنة 1973. هذه الصورة تُظهِر الطفلة الفيتنامية فان ثي كيم فوك وهي تركض عارية باتجاه الكاميرا وتصرخ بعد أن أصابت جسدها قنبلة نابالم وتسببت له في حروق من الدرجة الثالثة، ورغم أن الصورة لا تخلو من انتهاك خصوصية طفلة عارية، ونشرها قد يسبب لها أذى نفسيًا في المستقبل عندما تكبر، إلا أن معظم الصحف الأمريكية قررت في مداولاتها أن النشر أهم للمصلحة العامة – التي هي إبراز الوجه البشع للحرب الأمريكية العبثية في فيتنام – من مراعاة خصوصية الطفلة، فكان أن نُشِرتْ الصورة.
لكن قصة صورة طفلة النابالم لم تنته بالتقاطها كما هي صورة طفل جنوب السودان الذي لم يُعرَف هل عاش بعدها أم لا، وهذا هو الفرق بين نيك أوت وكيفن كارتر. ذلك أن أوت بعد أن أدى واجبه كصحفي، وضع كاميرته جانبًا وحمل الطفلة في سيارة أسوشيتدبرس إلى المستشفى، وعندما رفض الأطباء علاجها معتبرين أن حروقها بالغة ومن الصعب إنقاذ حياتها، غضب المصوّر وأشهر في وجوه الأطباء بطاقته الصحفية موضحًا لهم إن صورتها ستنشر في اليوم التالي في صحف عالمية كثيرة ومعها إشارة إلى أن المستشفى رفض علاجها. وهنا تراجع الأطباء عن موقفهم وأنقذوا حياتها، وعاشت الطفلة وكبرت وتزوجت وأنجبت، بل وصارت صديقة لهذا المصوّر الذي أنقذ حياتها.
فيما بعد صرح أوت أنه بكى عندما رآها تركض بحروقها وقال: “لو لم أستطع مساعدتها، لو حدث لها مكروه وماتت، أظن أنني كنتُ سأقتل نفسي”. وهذا ما يفسّر ما فعله المصوّر الآخر كيفن كارتر الذي لم يفعل شيئًا للطفل السوداني، فقد انتحر بعد ثلاثة أشهر فقط من فوزه بـ”بوليتزر”!.
خلاصة القول إن التصوير له قواعده الأخلاقية أيضًا، وربما كان يمكن التماس العذر لمنتهِك خصوصية ميرفت أمين وحزنها وشرودها لو أنه أشعرها بهذا التصوير أولا، واستأذنها في النشر ثانيًا، ولو أن مكان الصورة لم يكن سرادق عزاء. لكن “الباباراتزي التافه” ضرب بكل هذه الشروط عرض الحائط مؤثرًا إعجابات “السوشيل ميديا” على احترام خصوصية الناس. والمفارقة هنا أنه يمكن اعتبار أحد أفلام ميرفت أمين الأخيرة قد تنبأ من خلال عنوانه بهذه القصة كلها، فيلم أنتج عام 2017م وأخرجه روماني سعد عنوانه: “ممنوع الاقتراب أو التصوير”!.

سليمان المعمري. جريدة عمان. عدد الأحد 11 سبتمبر 2022م:

https://bit.ly/3ROan8m

صورة ميزفت امين في عزاء المخرج علي عبد الخالق

مقالات ذات صلة