نجاحات إسرائيل وإخفاقاتها في ذكرى احتلال فلسطين

أحمد الجندي

حرير- في الذكرى الخامسة والسبعين لقيام إسرائيل، لا بد أن يطرح سؤال مهم عما نجحت دولة الاحتلال في إنجازه، وما فشلت فيه، وهو سؤالٌ تعطينا الإجابة عنه تصوّرا عما يمكن أن يكون عليه مستقبل هذه الدولة، ومصير القضية الفلسطينية. والمقال لا يرصد كل نجاح أو إخفاق، بل يكتفي ببعض ما يدلّ على الوضع الراهن لإسرائيل.

يتجسّد النجاح الأكبر الذي حققته إسرائيل في هذه العقود في علاقاتها بالدول العربية؛ فحين نراجع خريطة هذه العلاقات نجد أن التحوّل في هذه الأعوام الطويلة كان صادما إذا نظرنا إلى نقطتي البدء والنهاية فحسب؛ فإذا راجعنا ما بين النقطتين وجدناه، وإن كان دراماتيكيا في مجمله، كان تدريجيا في تفاصيله، حيث انتقلت أغلب الدول العربية في علاقاتها بإسرائيل من مربّع العداء إلى مربع الصداقة والتعاون، المعلن أو السرّي، في المجالات كافة، وصولا إلى إقامة العلاقات الدبلوماسية والتنسيق الأمني في المواقف، واتفاق المصالح الاستراتيجية، بل وخطْب مسؤولين عرب في بلدان متعددة ودّها. وقد مكّنت هذه التطوّرات إسرائيل من تحقيق اختراقاتٍ سياسية واقتصادية وأمنية كبيرة في الدول العربية. وعلى الرغم من أن هذه النقطة تمثل أكبر النجاحات التي حققتها إسرائيل، إلا أن هذا الإنجاز يواجه عقبتيْن تمنعانه من الوصول إلى مستوى الطموح الإسرائيلي؛ أولاهما أن إسرائيل تبدو وكأنها قد وصلت، أو أوشكت على الوصول، إلى سقف ما يمكن تحقيقه في هذا الإطار من دون أن تصل إلى المستوى الذي تأمله من التطبيع الشعبي.

ترتبط العقبة الأخرى بمدى قدرتها على المحافظة على هذا الإنجاز، والإبقاء على علاقاتها مع الدول العربية مستقرّة في ظل أزماتها الداخلية التي تؤثر على طبيعة التحالفات في الشرق الأوسط. في هذا السياق، يستشهد الإسرائيليون بمقولة هنري كيسنجر إن “إسرائيل ليس لديها سياسة خارجية، بل سياسة داخلية فقط”، وتعني أن السياسة الداخلية الإسرائيلية هي التي تحرّك علاقتها بالخارج، ويؤكّد الصحافي الإسرائيلي عوفير شيلح على ذلك بقوله “يصغي الإسرائيليون جيدا لما يحدُث فيما بينهم، ويميلون إلى تصوير العالم عبر رؤاهم الضيقة، وإن كان هذا صحيحا بشكل عام، فهو أصح فيما يتعلق بالشرق الأوسط”. ويرى شيلح أن الأحداث الداخلية التي أحدثها ما يسمّى الإصلاح التشريعي أنتجت حالة من الصخب تصم الآذان، جعلت الإسرائيليين غير قادرين على الاهتمام الكافي بالأحداث الكبرى التي حدثت في الشرق الأوسط خلال الأسابيع القليلة الماضية، والتي تمسّ الأمن القومي في إسرائيل بشكل مباشر؛ كاستئناف العلاقات السعودية الإيرانية، واحتمالات عودة سورية إلى جامعة الدول العربية، وترجيح وضع نهاية للحرب الأهلية في اليمن بعد أن توقف القصف المتبادل بين السعودية والحوثيين منذ عام تقريبا، إضافة إلى زيارة وفد من حركة حماس السعودية”.

وقد أطلق كبير الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يوئيل جوزانسكي، على ما يحدُث في المنطقة حاليا تسمية “عصر الانفراجة”؛ حيث السعي إلى وضع حدّ للصراعات في مناطق متعدّدة في العالم العربي، وهذا سوف يعيد المفهوم القديم الذي كان يقسم المنطقة إلى تقسيمين يتراوحان بين السيئ والأقل سوءا بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي. ويؤكد المستشرق الإسرائيلي، موطي كيدار، في لقاء متلفز مع موقع زمن يسرائيل، على خطورة تأثير ما يحدث في إسرائيل على مكانتها في الشرق الأوسط، ويرى أن اتفاق أبراهام منذ ثلاث سنوات قام على أساس ما أدركته الدول العربية حينها من تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة، ورؤيتهم أن إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم تقريبا القادرة على ردع إيران، وبالتالي، جرى توقيع الاتفاق، لكن ما يجري في الشهور الأخيرة من تقارب خليجي إيراني لا يعبّر عن تنامي قوة إيران بقدر ما يعكس ما أصاب إسرائيل من ضعف جرّاء أوضاعها الداخلية، فالآخرون يرون أن ضعف الجبهة الداخلية يؤثر سلبا في الجيش، وأن الدولة تنهار بسبب صراعاتٍ بين التيارات والمؤسسات المختلفة في إسرائيل. وبدلا من دولةٍ متماسكةٍ موحّدة أصبح هناك دولة هشّة تتصارع مكوناتها. وهذا يعني أن الإسرائيليين، طبقا لقول كيدار، يفعلون ما تقوله الآية القرآنية “يخربون بيوتهم بأيديهم”. ومن هنا، كان التوجه العربي مبنيا على مقولة “إن لم تستطع أن تضربهم فانضمّ إليهم” فإذا لم يكن بإمكانهم ردع إيران، في ظل ما يحدث لإسرائيل، فليس أمامهم إلا صداقتها. وتسير هذه الأحداث عكس ما تريده إسرائيل، فقد كانت تأمل أن تكون “هي” الحليفة لدول الخليج تحديدا في مواجهة الخطر الإيراني، وما شهدته المنطقة أخيرا من تقارب بين دول الخليج وإيران يعرّض الحسابات الإسرائيلية التي كانت قائمة على هذا الطرح للفشل.

إذا ذهبنا إلى العلاقات الأميركية الإسرائيلية نلحظ أن استمرار الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل لا يعني أن العلاقات بين البلدين تسير على النحو الأمثل؛ فلطالما شهدت العلاقات بين البلدين توتّرات واضحة منذ مجيء نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل، خصوصا مع الإدارات الديمقراطية، التي كثيرا ما تظهر عدم رضاها عن سياسات نتنياهو، ولا عن تحالفاته السياسية، وهذا يؤدّي إلى علاقاتٍ فاترة، ظهرت جلية، أخيرا، بعد تشكيل نتنياهو الحكومة مع الأحزاب الدينية، وانعكست حتى على طريقة التعامل معه وأعضاء حكومته عندما يزورون واشنطن. صحيحٌ أن هذه السياسة مؤقتة بوجود نتنياهو أو الديمقراطيين في السلطة في كلا البلدين، لكن طول بقاء نتنياهو على رأس الحكومة، وتراجع دور واشنطن في المنطقة نتيجة توجيه الاهتمام نحو الصين وروسيا، طبَع العلاقات بين البلدين بهذا الفتور، وإن لم يؤثر على قوة الدعم الأميركي لإسرائيل بالطبع.

فيما يتعلق بفلسطينيي الداخل المحتل؛ فإن إسرائيل، وإنْ كانت قد نجحت في دمج شرائح منهم في الحياة السياسية الإسرائيلية عبر مشاركة الأحزاب العربية في انتخابات الكنيست أو الانتخابات البلدية، والذي وصل مداه بمشاركة القائمة العربية في الائتلاف الحاكم الذي قاده يئير لبيد ونفتالي بينت، إلا أن هذا الدمج السياسي لم يقابله تحسينٌ للظروف الاجتماعية والاقتصادية. ومن ثم كان من الطبيعي أن يشعر فلسطينيو 48 بالتهميش والإهمال وعدم رغبة دولة الاحتلال في دمجهم في مؤسّساتها، فضلا عن اختيار الغالبية منهم رفض الاندماج، وإن اضطرّوا للتعامل معها تماشيا مع ما فرضته الظروف والأمر الواقع. لكن الأحداث دائما ما تكشف عن حقيقة عدم اختلاف غالبية فلسطينيي الداخل عن غيرهم من الفلسطينيين في موقفهم الرافض للاحتلال والمدافع عن قضيتهم الفلسطينية طوال الوقت.

واستطاعت إسرائيل تحقيق انتصارات عسكرية متتالية على الجيوش العربية وصلت إلى ذروتها في عام 1967، وتوقفت حروبها مع الجيوش النظامية بعد ما منيت به من خسائر في حرب 1973، لكنها حرصت على تفوق عسكري لها في المنطقة مدعومة دعما كاملا من واشنطن، إلا أن هذا التفوق، خلال العقدين الأخيرين تحديدا، لم يُتح لها تحقيق انتصارات حاسمة على حركات المقاومة في غزة أو في جنوب لبنان. ويمكن القول إن إسرائيل تعرّضت أمام هذه الحركات لخسائر أدّت إلى تآكل تلك الصورة المبالغة في قوة الجيش الإسرائيلي، فخلال العقدين الأخيرين اضطرّت إسرائيل للخروج من غزة، وتعرّضت لهزيمة قاسية في الجنوب اللبناني في حرب لبنان الثانية، ولم تستطع حسم أيٍّ من اعتداءاتها العسكرية على حركات المقاومة في غزّة، ولا أن توقف إطلاق الصواريخ، والأكثر من ذلك أن تطوير المقاومة قدراتها العسكرية جعلها قادرةً على وضع الأمن القومي الإسرائيلي تحت التهديد الدائم، وجعل إسرائيل كلها في مرمى صواريخها.

يتمثل الإخفاق الأكبر الذي تتعرّض له إسرائيل منذ تأسيسها في المشكلات الداخلية الناجمة عن خلل في النظام السياسي، والتي يمكن أن تعصف بالمجتمع مع أي خلافٍ بين القادة السياسيين. وإذا كانت كل مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في إسرائيل تؤكّد على ضرورة إصلاح هذا النظام لأنه الخطر الأكبر الذي يهدّد وحدة المجتمع، إلا أن فساد القيادة السياسية، وضعف أداء رؤساء الأحزاب يجعل الإصلاح السياسي مستحيلا، والأخطر أن دعوات الإصلاح التي تظهر بين حين وآخر عادة ما تكون مدخلا من أجل مزيد من التحكم والفساد السياسي، وإعطاء مكاسب لفئاتٍ دون غيرها، ما يؤدّي إلى صراعاتٍ مجتمعيةٍ خطيرةٍ بين اليمين واليسار، أو المتدينين والعلمانيين. وما الأزمة التي تعيشها إسرائيل حاليا إلا أحد تجليات عدم إصلاح هذا النظام.

وإذا كان ما سبق يشير إلى تراجع للمشروع الصهيوني بعد 75 عاما من قيام إسرائيل، إلا أنه لا يعني، بالطبع، أن سقوطها سيحدُث غدا. يضاف إلى ذلك أن هذا الضعف لا يشعُر به إلا من يستجمع قوته ويسعى إلى النهوض، أما من كان ضعفه أكبر فسوف يشعُر باتساع فارق القوة بالتأكيد.

مقالات ذات صلة