عن ثانوية القضية الفلسطينية إقليمياً

حيان جابر

حرير-تراجع الاهتمام الرسمي بالقضية الفلسطينية؛ ونسبياً الشعبي، لصالح الاهتمام بجملة من القضايا الإقليمية والمحلية والدولية، من المشروع النووي الإيراني، إلى ليبيا واليمن وسورية وغيرها. تتعدّد القضايا والملفات التي يتابعها النظام العربي ويدرسها وينخرط بها، في حين تبتعد قضية فلسطين وشؤونها عن دائرة اهتمامه، الأمر الذي يولد مشاعر متضاربة ومخاوف متزايدة، ويمنح الصهيونية مزيداً من حرية ممارسة إجرامها المتواصل والمستمر بحق شعب فلسطين الأصلي.

وفق التفكير الاستراتيجي الإقليمي، القومي والقُطري، يمثل الاحتلال الصهيوني تهديداً أمنياً استراتيجياً لاستقرار المنطقة وأمنها وتطورها، وتعتبر فلسطين أرضاً وشعباً بمثابة خط الدفاع الأول قُطرياً وقومياً وإقليمياً، الأمر الذي يفرض على دول المنطقة إيلاء القضية الفلسطينية اهتماماً خاصاً، ومتابعةً حثيثةً، وجهوداً كبيرةً من أجل مواجهة التهديد وحل تبعاته، وفي مقدمتها استعادة حقوق شعب فلسطين الأصلي المشروعة، التحرير والعودة والتعويض وتقرير المصير وإقامة دولة فلسطين.

منذ احتلال فلسطين، لم تتبنّ دول الإقليم استراتيجية أمنية موحدة معنية بقضية فلسطين، أو بالمخاطر المتأتية من الاحتلال الصهيوني، بل شكلت القضية الفلسطينية وإفرازاتها إحدى مظاهر خلاف وانقسام النظام الإقليمي. .. كانت الفصائل والحركات الفلسطينية، منذ نشأتها، جزءاً من مظاهر الخلافات الإقليمية، بل مارست دوراً، محورياً أحياناً، في تزكية طرف على حساب آخر، وفق حسابات الدعم المالي والسياسي، حتى عرفت الفصائل في فترات زمنية معينة بأسماء الدول التي تدعمها، سعودية، مصرية، عراقية، سورية، إيرانية.

كتبَ مفكّرون وسياسيون فلسطينيون وعرب كثيرون عن خطأ إقحام القضية الفلسطينية في متن النزاع والخلاف والتنافس الإقليمي، باعتبارها قضية أمن قومي إقليمي، تتجاوز مخاطرها حدود الدول الوطنية أولاً، وحدود المنطقة العربية ثانياً، كما حذّروا من تداعيات هذا الخطأ على تماسك حاضنة القضية الفلسطينية الشعبية، ممثلة بشعب فلسطين الأصلي أولاً، وشعوب المنطقة ثانياً، وبالتالي على فاعلية حركة التحرّر الفلسطيني وقدرتها.

بعد اندلاع الثورات الشعبية في أواخر العام 2010، انقسمت الآراء، الفلسطينية والإقليمية، بشأن الموقف منها وحول تداعياتها، ولا سيما بعد انتشارها في أغلب دول المنطقة الإقليمية، بما فيها سورية. تمحورت الانقسامات حول ثلاث مسائل، أولاها الحياد أو عدم الحياد الفلسطيني، أفراداً ومؤسسات، وثانيتها التخوف من تأثير الثورات على بنية النظام الرسمي العربي والإقليمي، ومن تداعيات هذه التأثيرات على قضية فلسطين، وثالثتها التخوف من تأثير الثورات الشعبية على مركزية القضية الفلسطينية وأولويتها إقليمياً.

في ما يخص المسألة الأولى، هناك شبه إجماع على ضرورة الحياد الفلسطيني المؤسساتي، رغم عدم التزام بعض الأطراف به في الحالة السورية، التي شهدت مشاركة فلسطينية فصائلية رسمية في قمع الثورة، وقتل شعب سورية وتهجيره وتشريده، من فصائل محسوبة على النظام السوري، وأشهرها الجبهة الشعبية – القيادة العامة. كما شهدنا مشاركة حمساوية محدودة، غير معلنة، في صفوف القوى العسكرية المناهضة للنظام والمحسوبة على المعارضة والثورة. في حين أحجمت مجمل الفصائل وغالبية المؤسسات الفلسطينية عن متابعة شؤون فلسطينيي سورية اليومية، ولا سيما بما يتعلق بالمختفين قسراً داخل السجون السرّية، وبما يخصّ المخيمات المدمرة والمحاصرة، وغيرها من الشؤون والقضايا، رغم أنها قضايا اجتماعيا وإنسانية لا يجوز إهمالها.

المسألة الثانية، طرأت تغييراتٌ محدودةٌ على بنية النظام العربي، انحصرت في ثلاث دول، ليبيا واليمن، في حين شهدت تونس، أخيرا، استبداد مؤسسة الرئاسة وهيمنتها على مجمل قطاعات الدولة والمجتمع، الأمر الذي يوحي بتواطؤ المؤسّستين العسكرية والأمنية، فإن كان التواطؤ صحيحاً، نكون أمام عودة النظام القديم بواجهة رئاسية جديدة، الأمر الذي يعني نجاح الدولة العميقة في الحفاظ على بنية النظام ذاته، كما حدث في الحالة المصرية.

نجح النظام الرسمي العربي في الحفاظ على بنيته، رغم اندلاع الثورات العربية، لكنه تعمّد تجاهل أهمية القضية الفلسطينية، أو التقليل منها، حتى سورية التي ادّعى رئيسها في بدايات الثورة السورية إطلاق يد مقاومة الاحتلال الصهيوني من داخل سورية، تحولت إلى حقل تجارب لطائرات الاحتلال وصواريخه، بالتنسيق مع حليف النظام أو ربما راعيه الأول روسيا.

انطلاقاً من هذه الحالة، يبدو التخوّف من تأثير نجاح الثورات على تغيير بنية النظم الوطنية خطأ فادحاً ندفع ثمنه اليوم، فرغم نجاح النظم في قمع الثورات، تراجع حضور القضية الفلسطينية، بل نحا النظام العربي نحو التطبيع المباشر أو غير المباشر مع الاحتلال، مهمّشاً قضية فلسطين، إذ لم يتبن النظام العربي أي قرار يدين التطبيع، ويعلق أو يطرد الدول المطبعة من جامعته، أسوةً بالقرار الذي اتخذه بعد توقيع كامب ديفيد المصري. كذلك تجاهل محور الممانعة، ممثلاً بالنظام السوري، تطبيع الإمارات، وهرول رئيسه إلى أبوظبي باحثاً عن علاقة رسيمة مهما كان ثمنها، متجاهلاً القضية الفلسطينية والأراضي السورية المحتلة، التي أعلنت إسرائيل ضمها. كما سار حزب الله وحركة أمل على المسار السوري نفسه، حين مهد نبيه بري طريق مباحثات ترسيم الحدود اللبنانية – الإسرائيلية غير المباشرة، التي قد تفضي إلى اتفاق يمثل اعترافاً رسمياً لبنانياً بوجود إسرائيل وحدودها.

في الختام وبما يخص مسؤولية الثورات عن الانحدار الإقليمي، على كل من هاجم الثورات وكبح مسارها عبر دعمه النظم القمعية، العودة إلى دراسة تاريخ المنطقة وتحليله، بهدف فهم الأسباب الحقيقية خلف مركزية القضية الفلسطينية، التي تتجلى في شعوب المنطقة، فهي التي فرضت على النظام العربي مركزية القضية الفلسطينية، ودفعت نحو مواجهة الاحتلال عسكرياً وإعلامياً وسياسياً، كما أجبرت النظم على دعم النضال والمجتمع الفلسطيني. لذا أدّى قمع الثورات إلى إخراج الشعوب من حسابات النظم كلياً، في حين كان لزاماً علينا دعم الشعوب ومساعدتها على تطوير أدواتها وبرامجها، خدمة لمصالحها وقضيتنا.

من ناحية ثانية، كشف النظام الرسمي العربي عن توجهاته الحقيقية بعد نجاحه في قمع الثورات الشعبية، وفي تشديد قبضته على الشعوب، المتمثلة في التطبيع من دون أي اكتراث لبديهيات الأمن القومي الإقليمي والوطني، الأمر الذي يقودنا إلى تخيل صورة الوضع الإقليمي والفلسطيني، لو نجحت الثورات في هدم أسس النظام الرسمي العربي القديم، ومن ثم في بناء أسس نظام رسمي عربي جديد نابع من إرادة الشعوب ومعبر عنها!

أجبرت هذه الصورة المتخيّلة الاحتلال وحلفاءه الغربيين، بمن فيهم النظامان، الروسي والصيني، على دعم النظم الاستبدادية في حربها على شعوبها، تلك الحرب التي دعمها بعضنا خوفاً على مركزية قضية فلسطين، جاهلاً أو متجاهلاً أنها حرب إقصاء إرادة الشعوب وقضاياهم بما فيها قضية فلسطين.

مقالات ذات صلة