الأسباب الكامنة وراء موجة التضخم التي يشهدها العالم، وتأثيراتها المحتملة على الولايات المتحدة وعلى دول العالم، وأي خيارات متاحة لها اليوم في ظل تصاعد الاستقطاب العالمي

الاقتصادي الأمريكي مايكل هدسون

هذه ترجمة بتصرف لمقابلة مطوّلة أجراها الصحفي بنجامين نورتون مع الاقتصادي الأمريكي مايكل هدسون، نشرت في موقع Multipolarista في 28 حزيران، حول موجة التضخم العالمية في أعقاب العقوبات الغربية على روسيا، وأثر هذه العقوبات على الاستقطاب العالمي المتزايد، إلى جانب قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة، وتداعياته على الولايات المتحدة والعالم

بنجامين نورتون: قد لا يبدو قرار الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة بنسبة 0.75% أمرًا كبيرًا، لكنها أكبر زيادة في سعر الفائدة منذ عام 1994. وقد رأينا تقارير تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي سيدخل في كساد، ورئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يعزو ذلك لارتفاع الأجور. هل لك أن تعلق على هذا الموقف وعلى أزمة التضخم في الولايات المتحدة اليوم؟

مايكل هدسون: بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، هناك أمران فقط يجيد فعلهما: رفع نسبة الفائدة، وإنفاق تسعة تريليونات دولار على شراء الأسهم والسندات والرهن العقاري لرفع ثروة أثرى 10% من السكان. وبالنسبة لهؤلاء، ليس التضخم وحده ما يُعزى إلى ارتفاع الأجور، بل كل مشكلة في الولايات المتحدة تعزى إلى أن الطبقة العاملة تجني أكثر مما يجب. إنهم يحتاجون البطالة لمنع العمال من جني نسبة أكبر من قيمة ما ينتجونه، لتعود القيمة إلى البنوك والطبقة الإدارية المالية التي تسيطر على الشركات في الولايات المتحدة

لكن موقف بايدن يختلف عن موقف الاحتياطي الفيدرالي، فهو يسميه «تضخم بوتين». وما يعنيه ذلك طبعًا هو أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا خلقت نقصًا في النفط والغاز والطاقة وصادرات الغذاء. لذا فما تعيشه الولايات المتحدة هو حقيقةً «تضخم بايدن»، وهو نتيجة السياسة العسكرية والخارجية الأمريكية، وبالأخص نتيجة دعم الحزب الديمقراطي لصناعة النفط، القطاع الأقوى في الاقتصاد الأمريكي، الذي يوجّه معظم العقوبات المفروضة على روسيا. فقوة الولايات المتحدة من منظور الأمن القومي مبنية على قدرتها على تصدير النفط والتحكم بتجارته في كل دول العالم، وعلى تصدير المنتجات الزراعية

لذلك، ما نحن فيه ليس أزمة داخلية تتعلق بمطالبة العمال المأجورين برواتب أعلى -وهم لا يحصلون عليها، إذ لم يُرفع الحد الأدنى للأجور- فعلينا أن نضع الأمر في سياق الحرب الباردة الدائرة حاليًا. هذه المواجهة بين الولايات المتحدة والناتو من جهة وروسيا من جهة كانت هبة من السماء لصناعة النفط والمصدّرين الزراعيين في الولايات المتحدة. إحدى النتائج كانت ارتفاع سعر الدولار مقابل اليورو والجنيه الإسترليني وعملات عالم الجنوب. من حيث المبدأ، يجب أن يعني ذلك انخفاض سعر الصادرات بالنسبة لنا، مما يشير إلى أن السبب في التضخم هو أمر آخر. والسبب طبعًا هو حقيقة أن صناعة النفط محتكرة، وكذلك صناعة الغذاء التي تسيطر عليها شركات مثل كارجيل وآرتشر دانيلز ميدلاند، التي تشتري معظم المحاصيل من المزارعين وتبيعها. وبينما تحلّق أسعار الغذاء، فإن المزارعين يجنون دخلًا أقل نظرًا لارتفاع كُلَف الأسمدة والنقل والمدخلات الأخرى، لتراكم هذه الشركات أرباحًا هائلة

بالتالي، حين ننظر إلى ما يحدث في النظام الاقتصادي العالمي ككل، يمكن أن نرى كيف تجري هندسة التضخم، وكيف أن المستفيدين منه ليسوا بأي حال العمال المأجورين، لكنهم يلامون على الأزمة التي خلقتها سياسة بايدن الخارجية وحرب الناتو الأمريكية من أجل عزل روسيا والصين والهند وإيران، وأوراسيا عمومًا

أشارت دراسة لمعهد السياسة الاقتصادية إلى أن أرباح الشركات مسؤولة عن 54% من الزيادة في أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة، فيما تعود 8% فقط منها لارتفاع الأجور. لكن مع ذلك، نرى مسؤولين سابقين مثل لاري سمرز، الذي كان وزير الخزانة في عهد كلينتون، يقول إن علينا رفع البطالة من أجل تخفيض التضخم، فيما يقول جيروم باول إن علينا تخفيض الأجور. لماذا برأيك يرفضون الاعتراف بدور الشركات في التضخم؟

معظم الاقتصاديين يحتاجون وظيفة، وحتى يحصلوا عليها، عليهم أن يرسموا صورة عن الاقتصاد تقدم مشغلّيهم على أنهم مفيدون للمجتمع بشكل عام. لا يمكنك أن تقول إن مشغّلك يتصرف بطريقة لصوصية. لو كنت مفكرًا اقتصاديًا يؤمن بالسوق الحر، مثل آدم سميث أو ديفيد ريكاردو أو جون ستيوارت ميل، فسترى أن الأرباح التي تحققها الشركات اليوم هي ريع احتكاري، فهي أعلى بكثير من أي نسبة طبيعية للعائد على الاستثمار. والسبب هو أن الولايات المتحدة أوقفت العمل بقوانين منع الاحتكار منذ 10 أو 15 سنة، وسمحت عمليًا للاحتكارات بتركيز الأسواق والسلطة

ما يقوله لاري سمرز عمليًا هو أنك حين تهدم هذا الإطار القانوني الذي كان موجودًا منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وتفكك سيطرة الدولة، فأنت تدعم السوق الحر. ما يقصدونه بـ«السوق الحر» هو السوق الذي تستطيع فيه الشركات فرض الأسعار التي تريدها؛ هو سوق بلا تنظيم حكومي وبلا حكومة؛ هو السوق الذي تكون فيه الحكومة ضعيفة إلى حد يمنعها من حماية العمال المأجورين؛ هو السوق الذي لا تتولى الحكومة فيه التخطيط، بل وول ستريت، التي تخطط بالنيابة عن الصناعات الكبرى المُؤَمْوَلة. و«الديمقراطية» هي البلد الذي تكون فيه غالبية السكان، أي العمال المأجورون، عاجزة عن التأثير في السياسة الاقتصادية بما يتوافق مع مصالحهم

ما يقصدونه بـ«السوق الحر» هو السوق الذي تستطيع فيه الشركات فرض الأسعار التي تريدها؛ هو السوق الذي تكون فيه الحكومة ضعيفة إلى حد يمنعها من حماية العمال المأجورين

هذا هو ما تمثله إدارة بايدن، وما يمثله الحزب الديمقراطي ككل، حتى أكثر من الحزب الجمهوري. فالجمهوريون يروّجون لسياسات مناصرة للشركات المالية، لكن الديمقراطيين هم الذين يتولون تدمير إرث الحمائية الاقتصادية الموجود منذ أكثر من قرن. الحزب الديمقراطي هو عمليًا الجناح اليميني من الحزب الجمهوري. لقد أعاد بايدن تعيين جيروم باول رئيسًا للاحتياطي الفيدرالي وهو جمهوري معاد للعمال. تخيل أن لديك حزبًا يسعى لكي يتم انتخابه على برنامج مفاده «انتخبونا، وسنخلق كسادًا ونخفّض الأجور». هذا هو شعار الحزب الديمقراطي، وهو شعار ناجح، لأن الحملات الانتخابية تقوم على المساهمات المالية، وهذا الشعار سيجلب سيلًا من التبرعات للحزب من قبل وول ستريت والاحتكاريين وكل المستفيدين من هذه السياسة. لذا، كان قرار المحكمة العليا بإبطال الحق في الإجهاض قبل أيام هدية للديمقراطيين، لإنه يشتت الانتباه بعيدًا عن سياستهم في تقسيم الولايات المتحدة إلى هويات؛ كل الهويات التي يمكنك التفكير بها، باستثناء العمل المأجور

بالتالي، يتخذ الحزب الديمقراطي موقفًا قريبًا من مدرسة شيكاغو، مفاده أن الحل لأي مشكلة هو تخفيض الأجور، وسنصبح عندها قادرين على المنافسة بطريقة ما. لكن الاقتصاد الأمريكي لا يستطيع المنافسة لأن التضخم في قطاع التمويل والتأمين والعقارات عالٍ جدًا. فارتفاع الإيجارات وأسعار المنازل، والاضطرار لدفع 18% من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية المخصخصة، وما يدفعه الأمريكيون على خدمة الديون، كل ذلك يجعل من الصعب المنافسة مع العمالة الأجنبية. لا شيء من هذا يُذكر في الكتب الدراسية التي عليك نيل درجة جيدة فيها لتحصل على شهادة في الاقتصاد، لتصبح قابلًا للتوظيف في الاحتياطي الفيدرالي أو مجلس المستشارين الاقتصاديين أو الشركات التي توظف الاقتصاديين كمسؤولي علاقات عامة

عندما ننظر إلى أصول الاحتياطي الفيدرالي، نرى أن كل هذه الأصول هي في الأساس أوراق مالية. عام 2008، كان لدى الاحتياطي الفيدرالي أقل من 500 مليار دولار من الأوراق المالية. اليوم، من أصل ما يقارب تسعة تريليونات دولار من الأصول التي يحتفظ بها، حوالي 8.5 تريليون دولار هي أوراق مالية. كيف يمكن مقارنة سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بسياسات البنوك المركزية الأخرى؟

قلة قليلة من الناس يدركون الفرق بين البنك المركزي ووزارة الخزانة. لقد كانت الخزانة مسؤولة عن تنفيذ جميع السياسات التي باتت البنوك المركزية تنفذها اليوم. فالخزانة يفترض أن تكون المسؤولة عن إصدار الأموال وإنفاقها. تم فصل البنوك المركزية في الولايات المتحدة عن وزارة الخزانة عام 1913 من أجل نقل التحكم بالائتمان والمعروض النقدي من واشنطن إلى نيويورك. كان ذلك صريحًا جدًا. لم يسمح الاحتياطي الفيدرالي الأصلي حتى لمسؤول في وزارة الخزانة بأن يكون عضوًا في مجلس إدارته. لذا، فإن وظيفة البنك المركزي [اليوم] هي تمثيل مصلحة البنوك التجارية. ومصلحة البنوك التجارية هي إنتاج منتجاتها، أي الديون. وهم ينتجون منتجاتهم بالاعتماد على الأصول الموجودة؛ العقارات بشكل أساسي، ولكن أيضًا الأسهم والسندات. لذا، فإن مهمة البنك المركزي هنا هي دعم القطاع المالي، الذي يحتفظ بالثروة في شكل أسهم وسندات وقروض، وخاصة السندات المصرفية التي تنتج أموالها عبر الائتمان العقاري

نفس الشيء في أوروبا مع البنك المركزي الأوروبي. تمر أوروبا الآن بضائقة حقيقية، كانت قد دخلتها منذ أزمة اليونان. في أوروبا، نظرًا لأن الاقتصاديين اليمينيين الذين يتمركز تفكيرهم حول السياسة النقدية هم من صمموا اليورو، فإن جزءًا من أحكام منطقة اليورو هو أنه لا يجوز أن يتجاوز العجز في الميزانية 3% من إجمالي الناتج المحلي. هذا ليس كثيرًا، لكن هذا يعني أنه لا يمكن أن يكون لديك سياسة كينزية حقيقية في أوروبا لإخراج الاقتصاد من الكساد. بالتالي، إذا كنت بلدًا مثل إيطاليا في الوقت الحالي وكان لديك ضائقة مالية حقيقية أو ضائقة في الشركات أو ضائقة عمالية، فلن تستطيع الحكومة إنقاذ الصناعة أو العمالة الإيطالية. لكن في المقابل، يمكن للبنك المركزي الأوروبي عبر خلق الائتمان، ومن خلال ودائع البنك المركزي، أن يزيد بشكل كبير من أسعار حزم الرهن العقاري والأسهم والسندات في أوروبا. لذا، فإن البنك المركزي الأوروبي يشبه البنك التجاري إلى حد كبير

كان قرار المحكمة العليا بإبطال الحق في الإجهاض قبل أيام هدية للديمقراطيين، لإنه يشتت الانتباه بعيدًا عن سياستهم في تقسيم الولايات المتحدة إلى هويات؛ كل الهويات التي يمكنك التفكير بها، باستثناء العمل المأجور

الصين مختلفة تمامًا، لأنها -على عكس الغرب- تتعامل مع المال والائتمان كمنفعة عامة وليس كاحتكار خاص. لذا، سيقول البنك المركزي الصيني: ما الذي نرغب في خلق الأموال من أجله؟ حسنًا، سنرغب في خلق الأموال لبناء المصانع، أو حتى يتمكن مطورو العقارات من بناء المدن. يمكننا خلق الأموال لإنفاقها فعليًا في الاقتصاد [الحقيقي] لخلق شيء ملموس، كالسلع والخدمات. البنك المركزي الصيني لا يخلق الأموال لزيادة أسعار سوق الأسهم والسندات أو لدعم طبقة مالية، لأن الحزب الشيوعي الصيني لا يريد إنشاء طبقة مالية ريعية، بل طبقة صناعية وقوى عاملة صناعية

لذلك، يسعى البنك المركزي في الاقتصاد الريعي الغربي إلى خلق الائتمان لتضخيم كلفة المعيشة على مشتري المساكن وأي شخص يستخدم الائتمان أو يحتاج إليه، ولتمكين الشركات من الاتجاه نحو القطاع المالي، وبالتالي، كسب المال عن طريق الهندسة المالية، بدلًا من تحقيق الأرباح عن طريق الاستثمار في المصانع والمعدات وتوظيف العمالة لغايات إنتاجية [حقيقية]. في السنوات الخمس عشرة الماضية، أُنفِق أكثر من 90% من أرباح الشركات في الولايات المتحدة على عمليات إعادة شراء الأسهم وعلى توزيعات الأرباح، فيما أنفقت 8% فقط منها على الاستثمارات الجديدة والمصانع والمعدات والتوظيف

بالتالي، لم يعد الاقتصاد الأمريكي بالطبع اقتصادًا صناعيًا. فقد أصبح بوسعك كسب المال بدون إنتاج شيء وبدون قاعدة صناعية، ببساطة عن طريق جعل البنك المركزي يرفع سعر الأسهم والسندات والقروض التي يقدمها أغنى 10% من السكان. وبالطبع، هذا لا ينجح في النهاية، لأنه عند نقطة معينة ينهار كل شيء من الداخل، فنحن ما زلنا نعتمد على الصين وآسيا لإنتاج سلعنا، وتزويدنا بالمواد الخام، والقيام بكل ما نحتاجه.

مقالات ذات صلة