كاتب الظل وكاتب الواجهة

عبد الحكيم حيدر

حرير- كاتب الظل لا يحمل أي شيء باستثناء خطواته وتوجّساته في أمر الشأن العام والمناخ العام والرأي العام، حتى شأن الحرب يشكّ في نوايا تلك الديوك التي أذّنت لها من الفجر، وصبغت من أجلها ومن أجل قدومها واجهات البيوت والملاعب والقطارات، حتى وصلوا إلى أبواب حديقة الحيوان.

كاتب الظل لا يعشق الطواويس، ويكتفي بذكريات الأيام القاسية. أما كاتب الواجهة فيحمل فوق ظهره كل شيء، ابتداء من هرم خوفو حتى بابل وآشور، حتى يصل بالورد مساء إلى فندق “عش البلبل”، من دون أن يستطيع تكملة قصيدته عن قدوم المراكب المحمّلة بالمدافع والعنب من إيطاليا.

كاتب الظل يحبّ الأسواق وكاتب الواجهة يخاف أن يمشي فيها مخافة ألا يعرف من عامة الشعب، فيفضّل دائما توقيع رواياته في صالة فندق “عشّ البلبل”، أمام الكاميرات، كاتب الظلّ تراه سعيدا بالقراءة بعيدا عن السوق ويكتب ويرمي في الأدراج، أو حتى أفران بغداد أو الموصل، وأحيانا يتركه في “صحّارات” محكمة، على أمل أن تدلّ أحفاده على تلك المؤلفات، يمامة بعد موته، هذا لو كان قد ترك للزمان أحفادا. أما كاتب الواجهة فدائما يبكي ناشره الدموع أمام كاميرات المعارض الدولية، لأن المؤلف يحرم جمهوره من عبقرياته، ثم يتطوّع الناشر بإرسال خمسة جنيهات ذهب إلى برنامج “دهب دهب”، كي يقنع الحاصلين عليها من عامّة الشعب ذلك المؤلف بإرسال آخر مخطوطاته إلى الناشر قبل المعرض الذي على الأبواب. وبالفعل، يقتنع الكاتب، بعد دموع القرّاء الذين حصلوا على الجنيهات الخمسة، ويرسل المخطوطة إلى الناشر ويدخل المعرض بكرافتة من جلد الأرنب، كي يوقّع للجماهير على كل نسخة.

يذهب كاتب الواجهة إلى القصر الجمهوري مبكّرا بالكوفية الصوف في عز الشتاء تحت ياقة البدلة التي اشتراها خصيصا لتلك المناسبة، ويسجّل اسمه في دفتر الرئاسة مبكّرا، باسمه الرباعي مرّة، ومن أسفله اسم الشهرة مذكّرا موظف الرئاسة بعدم نسيان دعوة شراء “المحروسة الجديدة”، من فرنسا في 2030. أما كاتب الظل فلا يفارق شقته في “بشتيل”، لأنه يخاف من العيال على تكعيبة العنب في السطوح رغم أن الشجر قد كفّ من سنواتٍ عن طرح العناقيد.

كاتب الواجهة تراه يتحدّث عن اندلاع الحروب في المناطق الرخوة التي لا يحمي جيشُها أمنها القومي، وبعد سنواتٍ يتم اكتشاف أنه هرب من التجنيد في الخمسينات، بعدما قطع بمطواة عقلتين من أصبع الوسطى بيده اليمنى ونام في مستشفى “البياضية”، أسبوعا أكل فيه عشرين ديكا وشوالين مانجو، وبعد الشفاء تدرّب على ركوب الخيل. أما كاتب الظل فلا يملك خيلا ولا أوراق يانصيب، ولا حتى دفتر توفير في مكتب “أبو النمرس”.

كاتب الظل خجولٌ بلا ذنب، وكاتب الواجهة يتفاخَر دائما بالذنوب التي يغفرها محبّة تراب الوطن، وأن للوطن مهابة، وأن للسيف ثغرا بسّاما، وأن مكان المعارضين والعجزة، في أيام الحروب والمحن، هي أكوام تراب أثينا مع الرعاع والكلبيين.

كاتب الواجهة يعرف جيدا كل خرائط العالم وخرائط السياسة وتلك الأشياء التي تأتي من باب المندب أو رأس الرجاء الصالح أو غابات الأمازون أو شرق أفريقيا، أو تلك الرياح الساخنة التي تهب من الهند. ويعرف أيضا شكل البيوت التي جرت زخرفتها من القاهرة حتى ثغر السويس، كي تتذكّر “قطر الندى”، بلدها الأم وهي ذاهبة في هودج عرسها إلى بيت خليفة بغداد، ورأى أيضا خلاخيل الذهب التي ملأت صناديق الصندل في جهازها المهول. أما أنواع المسك في القوارير الهندية فوق الهوادج فقد عزم شاعر الواجهة على أن يؤلف فيها كتابا مستقلا من دون أن يتطرّق فيه إلى ذكر أنواع الحرير أو أنواع العسل المرسل إلى بغداد، ولا أمر الخواتم ولا الزعفران أو العقيق. أما كاتب الظل فيسكت هناك في المقهى تماما، وهو يتأمل في التلفزيون كاتب الواجهة وهو يهدي قصيدته للرئيس، وكل آنٍ يشعل سيجارة في المقهى. وفي النهاية، يسأل عن الوقت، ثم يتوجّه إلى شقته ببشتيل.

أما ذلك الذي يجيد لعب الدورين معا، كاتب الظل وكاتب الواجهة، فتلك عبقريةٌ مجتمعيةٌ صعبةٌ جدا، وأجهل تماما نعومة حريرها أو في أي البلاد يتم صنعها وصباغتها.

مقالات ذات صلة