ولكننا نعرفُ من دفع الثمن

سعيد زيداني

حرير- الحرب الثأرية على قطاع غزّة دخلت يومها الـ160، والخسائر البشرية والمادية والنفسية مروعة في هولها في الجانب الفلسطيني: ما يقارب 32 ألف شهيد وما يقارب 74 ألف جريح، إضافةً إلى آلاف كثيرة من الجثث وأشلاء الجثث الملقاة في الطرقات أو المطمورة تحت الركام؛ ما يزيد عن 60% من المنازل والبنايات السكنية والحكومية مدمّرة كليّاً أو جزئيّاً، وبالتالي، غير صالحة للاستخدام الآدمي؛ ومئات من كل من المساجد والمدارس والمعاهد والمستشفيات والعيادات الطبّية/ الصحية والمرافق الخدمية خرجت عن الخدمة بسبب نقص الماء والغذاء والدواء والوقود، كما بسبب القصف والتدمير، ذلك التدمير الذي أخرج عن الخدمة أيضاً شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحّي والطرق والمواصلات. ولكن الأكثر قسوةً وإيلاماً من ذلك كله ذلك النزوح القسري لما لا يقلّ عن مليون ونصف مليون من البشر من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه وجنوب جنوبه، وما سبق أن رافق هذا النزوح من تعطيش وتجويع وحرمان من العلاج الطبي والمأوى الآمن من القصف، حتى لو كان ذلك المأوى خيمة لا تقي من البرد والريح والمطر. ولم يكن حظ من أبى النزوح من الشمال إلى الجنوب أو جنوب الجنوب أقل بؤسًا. علمًا أن أعداد القتلى والجرحى تتزايد يومًا بعد يوم، ومثلها تتزايد أعداد المباني والمنشآت والطرق المدمرة نتيجة القصف الثأري والجنوني من البر والبحر والجو، قصف بـ”أذكى” القنابل وأكبرها وزنًا.

ونتيجة لهذا القصف الوحشي والمتواصل مدة خمسة أشهر ونصف شهر، أصبح قطاع غزّة أرضًا خرابًا. فكيف ولماذا حصل ويحصل كل ذلك على مرأى ومسمع كل الدنيا؟ هذا هو السؤال الكبير. أمًا الجواب القصير والبسيط فمفاده التالي: هذا هو الرد الإسرائيلي/ الصهيوني على ما فعلته كتائب المقاومة الإسلامية في 7 أكتوبر/تشرين الأول. ففي صباح ذلك اليوم، تحدت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ذلك الحصن المنيع، ذلك “الجدار الحديدي”، الذي أقامته وفاخرت به الحركة الصهيونية عقوداً كثيرة. صباح ذاك اليوم، انقضّت كتائب عزالدين القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، على مستوطنات غلاف قطاع غزّة، وعلى المدن القريبة شرقها وشمالها، فقتلت ما يزيد عن 1200 من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين، وأسرت ما يقارب 250 منهم، ودمّرت منشآت ومركبات عسكرية ومدنية كثيرة، وأشاعت خوفاً ورعباً في البلاد وبين العباد. لقد فعلت كتائب القسام ذلك لتحقيق أهداف محدّدة، اولها فك الحصار الظالم عن قطاع غزّة، وحماية المسجد الأقصى وبيت المقدس وأكناف بيت المقدس من اعتداءات اليهود المتطرفين، وتفريغ السجون الإسرائيلية من آلاف المعتقلين السياسيين/ الأمنيين الفلسطينيين. إلى جانب تحقيق مآرب أخرى غير معلنة، مثل ردع التطبيع الزاحف بين إسرائيل والسعودية، واحتلال موقع الصدارة في الحركة الوطنية الفلسطينية المقاومة للاحتلال. وقد كشفت عملية 7 أكتوبر، وقد حملت اسم “طوفان الأقصى”، عن إعداد وتنفيذ مبهريْن، باعتراف القاصي قبل الداني والعدو قبل الصديق. ومن دون أدنى تردّد أو تأخير، استجمعت القبيلة اليهودية/ الصهيونىة قواها واستصرخت حلفاءها الذين لبوا النداء سريعًا، وأعلنت الحرب الشعواء على المقاومة الإسلامية في قطاع غزّة، في عملية عسكرية ثأرية ومدمرة حملت اسم “السيوف الحدودية”، عملية فتكت بالإنسان والبنيان ومقوّمات الوجود البشري في هذه البقعة الصغيرة والمحاصرة من الأرض الفلسطينية. وما زالت تفتك حتى لحظة كتابة هذه السطور، وإلى الحد الذي أوصل إلى اتهام حكومة وجيش إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أم الجرائم، من دولة جنوب افريقيا أمام محكمة العدل الدولية في يناير/ كانون الثاني الماضي.

ولا يحتاج المرء إلى فطنة خاصة أو ذكاء خارق لكي يدرك أن ما تقوم به القوات العسكرية الإسرائيلية منذ نحو ستة أشهر لا يقتصر على تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، التي تتلخّص بتحرير الرهائن/ المختطفين وتقويض القدرات العسكرية لكتائب عز الدين القسام وقدرات الحكم لحركة حماس في قطاع غزّة. ما تقوم به القوات الإسرائيلية الغازية يتعدّى ذلك بكثير. ما تقوم به تلك القوات يستهدف جميع سكان القطاع ومقومات وجودهم، مقاومين كانوا أو حاضنين للمقاومة الإسلامية أو نافرين عنها، فالهدف النهائي لهذه الحرب الوحشية والقذرة تهجير ما أمكن من سكان القطاع قسرياً أو قسريّاً/ طوعيّاً، سواء خلال فترة الحرب أو بعدها، وتطويع وتدجين من كان عصيًاً على التهجير. بكلمات أخرى، أصبح واضحاً وجليّاً أن ما تهدف إليه الحرب على غزّة، ومن خلال القتل والتدمير والتجويع والترويع، هو أكثر بكثير من تحرير المخطوفين/ الرهائن وتقويض قدرات المقاومة الإسلامية في مجالي القتال والحكم؛ ما تهدف إليه أساساً هو إيجاد بنية طاردة للحياة البشرية الكريمة في القطاع، خصوصاً في ضوء تعثّر عملية التهجير القسري المشتهاة من حكومة اليمين الصهيوني المتطرّف.

وللإجمال أقول: إضافة إلى الأهداف المعلنة لكل من حركة حماس وحكومة إسرائيل، هناك أهداف غير معلنة، لا تقلّ أهمية، لكل منهما، وكما حاولت تبيان ذلك أعلاه. ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فقد بيّنت مجربات أمور الحرب أن “طوفان الأقصى” كانت مخاطرة غير محسوبة جيداً، إذا حكمنا عليها بناء على النتائج. والنتائج، كما نعرف، كانت كارثية وعلى مختلف المستويات. وفي المقابل، لقد تلقت الدولة الصهيونية ضربة موجعة ومذلّة ومكلفة، وكانت الخسائر البشرية والمادّية والمعنوية غير مسبوقة منذ حرب 1973. وفوق ذلك، تكشّف مدى اعتماد الدولة اليهودية/ الصهيونية على الحلفاء الأوروبيين الغربيين بعامة، والأخ الأميركي الأكبر بخاصة، لغرض الدعم والحماية، عسكرياً وسياسياً وقانونياً، فلا القبة الحديدية ولا “الجدار الحديدي” كانا كافيين لتوفير مثل هذه الحماية إلى الدرجة اللازمة. والعبرة: بسبب ما فعلته وتفعله المقاومة الإسلامية في غزّة، تآكلت المكانة الإقليمية التي طالما تغنّت بها وروّجتها حكومات إسرائيل المتعاقبة. ولكن، ورغم الخسائر الإسرائيلية المذكورة، لا مجال لإنكار أن خسائر الفلسطينيين، أرضاً وشعباً وقضية، كانت هي الأكبر والأوجع والأبعد مدى.

وختاماً، على ضوء العرض والتحليل أعلاه، أخلص إلى النقاط الثلاث التالية: أولا، لقد بيّنت النتائج أن عملية طوفان الأقصى كانت مخاطرة محسوبة خطأً، أو غير محسوبة جيّداً، على الرغم من الإعداد والتنفيذ المبهرين، ورغم البطولات التي تجلت على مدى خمسة أشهر ونصف شهر. فلم يتوقع من خطّط ومن أمر بالتنفيذ، على الأرجح، ذلك القدر من وحشية الرد الإسرائيلي ودمويته، أو ذلك القدر من الدعم الأميركي/ الأوروبي الغربي لإسرائيل، أو حتى ذلك القدر من التخلي من أنظمة الحكم في الدول العربية. تلك الوحشية وذاك الدعم وذاك التخلي فاقت كل توقّع، توقع الخبراء والعاديين من الناس على السواء.

ثانيا، جاءت عملية “السيوف الحديدية” مختلفةً جذرياً، في طبيعة أهدافها وفي حدّة القصف التدميري التي رافقها، عن تلك العمليات التي سبقتها في قطاع غزة منذ عام 2009. ويخطئ، بل ويفحش في الخطأ، كل من يعتقد باختزال الأهداف إلى التي جرى الإعلان عنها في البداية. فالأهداف غير المعلنة كانت، وما زالت، الغالبة والطاغية. بكلمات أخرى، حرب إسرائيل على غزّة لا تقتصر في أهدافها على تقويض القدرات العسكرية وقدرات الحكم لحركة المقاومة الإسلامية وعلى تحرير أو استعادة الرهائن/ المخطوفين الإسرائيليين، بل تتعدّى ذلك إلى تدمير قطاع غزة وتحويله إلى أرض خراب لا تصلح لسكن وعيش الآدميين. وفي سبيل تحقيق ذلك، داست القوات الإسرائيلية على القوانين والمواثيق الدولية ذات العلاقة بحماية المدنيين والمرافق المدنية وقت الحرب، ومن ضمنها تلك الإجراءات المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية في يناير/ كانون الثاني الماضي.

ثالثاً، غني عن القول إن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تتحمّل المسؤولية عن نتائج ما خططت له ونفذته يوم 7 أكتوبر ولاحقًا. ولكن لا يجوز تحميلها المسؤولية عن نتائج الجرائم والفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي خلافاً لأحكام كل من قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. وفي جميع الأحوال، لم يحن بعد وقت الملامات وتحميل المسؤوليات عن نتائج الحرب، وليس هناك ما يبرر الاندفاع نحوه. فالأوْلى الآن، زمنيّاً ومنطقيا، عمل ما يلزم وما أمكن، ومن جميع الوطنيين الفلسطينيين الحريصين، وكذلك الأحرار في العالم الأوسع، لوقف النزيف، لوقف المجزرة، لوقف العدوان الإبادي. وحين تضع الحرب أوزارها سنكون أعلم بكيفية توزُّع المسؤوليات وكيفية التمييز بين من أخطأ وأصاب، وبين من أعطى وضحّى ومن تخاذل وتخلى، وإن كنّا نعرف الآن هوية من دفع الثمن، والثمن الأكبر.

 

مقالات ذات صلة