أردوغان ليس نقيضًا لأتاتورك

"الهوية التركية سيُعاد لها مكانها لكنها لن تصبح نظاماً سياسيا إسلاميا"

حسمت الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تركيا، في 24 يونيو/ حزيران الحالي، فوز الرئيس رجب طيب أردوغان في الجولة الأولى بـ 53% من الأصوات، ولكن ذلك رافقه انخفاض في عدد الأصوات المصوّتة لحزبه (العدالة والتنمية) من 49% إلى 43%، واضطراره للتحالف مع حزب الحركة القومية. الميل القومي والبراغماتي لدى أردوغان وحزبه يُسهِل له ذلك، وهو يخفّف من إسلامية الرجل ويقوّي من قوميته وبالضد من الأكراد خصوصا، وضمن إرث كمال أتاتورك بمعاداة الكرد. وضعُ أردوغان ضد أتاتورك، كما يحاول حداثيون كثيرون، وأن الأول يؤسس الجمهورية الثانية كأنّها ضد الأولى، خاطئ؛ فأردوغان يوظف كل الممكنات لتحويل النظام الرئاسي، وللتخفيف من علمانية الدولة، وبذلك يعزّز سلطته، والتي بدأت تتورّط منذ 2002، وما زالت تتصاعد كنظام رئاسي.

أن يخسر حزبه، فهذا يعني أن تعقيداتٍ كثيرةً تحول دون أن يكون الحزب الوحيد، وتحالفه مع حزب الحركة القومية سيجبره على انتهاج سياسات قومية وعلمانية في آن. بقية القوى من علمانية وقومية وإسلامية ليست متوافقةً مع أردوغان، لكنها ليست ضده؛ ففي محاولة الانقلاب الذي حدث وقفت معه، ولم تعترض على التغييرات الكبرى التي أحدثها في مؤسسات الجيش

“الهوية التركية سيُعاد لها مكانها لكنها لن تصبح نظاماً سياسيا إسلاميا”

والأمن والقضاء خصوصا، بل وحتى في ميدان الحريات، وفرضه نظام الطوارئ. القصد هنا أن الأحزاب القومية عانت أيضاً من حكم الجيش والأمن، وتريد إغلاق هذه الصفحة من تاريخ تركيا، والتصالح مع “الإسلام السياسي” التركي، أي تريد تدجين الأخير في إطار علمانية أتاتورك. أردوغان الذي ساهم في إخراج تركيا من الأزمة الاقتصادية قبل 2002، وساهم في بناء بنية تحتية كبرى، وانفتح على العالم العربي وآسيا الوسطى، حاز على تأييد شعبي واسع، وهذا ساهم في انتصاراته الانتخابية المستمرة، والأخيرة كذلك.

لا يمكن تفسير طموح أردوغان الرئاسي بالأسلمة، وأن ذلك سيقوده إلى مزيد من التشدّد وقمع الحريات. أردوغان معنيٌ الآن بإلغاء نظام الطوارئ، كما وعد في أثناء حملته الانتخابية، ومعنيٌ بتحسين سجله في مجال الصحافة والحريات. ربما سيسمح له التحوّل من النظام البرلماني إلى الرئاسي بذلك، وسيدفعه تحالفه مع حزب الحركة القومية نحو ذلك بالتأكيد. ليس تعزيز سلطته الفردية بالضرورة أن يكون ضد الحريات.

أفرزت انتخابات يوم الأحد الماضي قوة سياسية قومية وكردية حقيقية، وتحالفاتٍ مع الحركات الإسلامية المتضرّرة من أردوغان؛ القوى السياسية “العلمانية” الضخمة في تركيا، وحيازة منافسه على الرئاسة “محرم إنيجة” 30%، ليست حسبة بسيطة، بل هي نتائج ستُجبر أردوغان على الانصياع لهذه القوى.

مرّت تركيا بمحاولة انقلاب عسكري في صيف 2016 فشلت، وكذلك هناك تأزمٌ شديد مع أميركا بسبب اعتمادها على حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سورية، وهو جزء من حزب العمال الكردستاني التركي، ولم تحل قضية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي بعد، وعكس ذلك، عقدت تركيا تحت حكم أردوغان اتفاقيات اقتصادية وعسكرية كبرى مع روسيا، وحاولت أن تلعب دوراً كبيراً في العالم العربي، ويشكل تدخلها الكبير في سورية عنصراً جديداً في ساحة التنافس السياسي التركية، وقد كان محط تجاذب كبير بين قوى رافضة لهذا الدور وللاجئين السوريين، وبين سياسته هو، المتوازنة تجاه اللاجئين. وإضافة إلى ذلك، ساهم تحالفه مع روسيا في احتلال أراض كبرى في سورية، وأعطاه بعداً إقليمياَ وازناً. تركيا المتحالفة مع روسيا، والرافضة لتجربة إيران الفاشلة والمحاصرة، وكذلك للضعف الشديد للعربية السعودية، لا يمكنها التورّط بسياساتٍ إسلاموية مناقضة لقيم الليبرالية والنظام الديمقراطي والعلمانية. قصدت هنا، أنّه ليس صحيحا اعتبار النظام الرئاسي شراً كاملاً؛ فتركيا لن تتخلى عن القيم المذكورة على الرغم من تردّيها في سجل الحريات في السنوات الأخيرة، وربما تنهض بمشاريع اقتصادية كبرى، وفقاً لرؤية 2023.

سيطبق النظام الرئاسي مع بداية يوليو/ تموز، وستكون للرئيس سلطات واسعة، وستشمل كل ميادين الحياة. وستقيّد السلطات تلك بالبرلمان “على الرغم من إمكانية حلّه”، فهو ليس له الأغلبية فيه، وهناك كتلة بشرية كبرى “علمانية”، وأحلام مؤجلة أطلقها في دواخل الناس في أثناء دعايته الانتخابية. أردوغان معنيٌ بتلبية كل هذه المسائل؛ أقصد أن السياسات العامة للدولة، وفي كل المجالات، هي التي تضبط تحولاته وليس الإسلام السياسي. تضخيم الأسلمة، وعلاقته بالإخوان المسلمين، و”توطن” إخوان سورية ومصر خصوصا في تركيا، ليست دليلاً على تحوّلٍ إخواني قد يغري أردوغان وينساق إليه، الأدق أنه استخدم الإخوانيين العرب في سياق التأسيس لعلاقات قوية مع العالم العربي، بعد أن رفضته أوروبا، وللاستفادة من مناخ الربيع العربي.

مستقبل الإسلام السياسي في تركيا أقرب إلى الأحزاب المسيحية في أوروبا، أي أن العلمانية

“لا يمكن تفسير طموح أردوغان الرئاسي بالأسلمة، وأن ذلك سيقوده إلى مزيد من التشدّد وقمع الحريات”

المؤسسة جيداً في تركيا تشبه ما هو موجود في أوروبا. سياسات أردوغان ربما تخفف من حدة علمانية أتاتورك. وقد شكّل النظام العلماني المؤسس في تركيا مجتمعاً يشبهه. تغيّرت الهوية الإسلامية التاريخية بعد إلغاء كل ما يخص نظام الخلافة، ومنذ عشرينيات القرن العشرين، وبالتالي تحوّلت الهوية إلى قضيةٍ تخصّ الأخلاق والسلوك ومجال الحرية الشخصية. من أسوأ الأوهام الظن أن تركيا كأي بلد عربي، فتركيا متقدمة على كل دولنا العربية وفي المجالات كافة؛ أي أن الهوية التركية سيُعاد لها مكانها، لكنها لن تصبح نظاماً سياسيا إسلاميا.

الإشكالية الثانية هي العلاقة مع الأكراد، ويشكل فوز حزب الشعوب الديموقراطي (الكردي) بأكثر من 13%، على الرغم من سجن زعيمه وقيادات منه، عنصراً فاعلا لجهة رفض العسكرة في صفوف الكرد، وجنوحهم نحو السياسة، والحوار، والانتهاء من مفهوم “أتراك الجبال” كما يقال تركياً عن الكرد، والتعامل معهم قوميةً لها خصائصها؛ تقف هذه القضية أمام الدولة التركية منذ نشوئها، وتعامل أردوغان معها كما تعامل النظام السابق معها، الآن تركيا بقومييها وإسلامييها معنية بإيجاد معادلة جديدة، وربما هوية جديدة، تدمج الكرد والترك، وتنفتح على العالم العربي، ولا تقاطع أوروبا وأميركا خصوصا. نعم أصبح أردوغان رئيسا في نظام رئاسي، ولكنه ليس نقيضاً لأتاتورك، وربما العكس هو الصحيح، فهو يوازن النظام القديم، فيخفّف من علمانيته، ويصالح تركيا مع هويتها التاريخية، وبذلك تكون ولادة الجمهورية الثانية كتكملة للأولى.

مقالات ذات صلة