جنوب أفريقيا وإسرائيل: متى تصير مقرّرات “العدل الدولية” نهائية؟

عبد الفتاح ماضي

حرير- مثّلت مقاضاة دولة جنوب أفريقيا لدولة الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية وقرار هذه الأخيرة سابقة في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. يناقش المقال الصورة الكبرى خلف هذه القضية، ويرى أن سبب مشكلة عدم تنفيذ القرارات الأممية هيكلي في النظام العالمي الحالي وداخل الدول الديمقراطية الغربية أيضا، فما الملامح العامة لعالم السياسة المعاصر؟ ومتى تكون قرارات محكمة العدل نهائية؟

(1)

أقامت الدول الكبرى الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر نظامًا عالميًا يمكن على أساسه فهم عالم السياسة الوطني (ممارسة السلطة داخل كل دولة) والعالمي (العلاقات بين الدول وغيرها من الفاعلين) على أساس معادلة تقوم على أربعة أركان على الأقل: القوة أساس السياسة؛ والسياسة هي صراع قُوَى مفتوح ينتصر فيه الأقوى؛ ومركزية فكرة المصلحة الوطنية والتي يتم استخدامها لتبرير الصراعات وما ينجم عنها من موازين قوة وتداعيات؛ وأخيرا لا سقف أمام الإنسان بمعنى أن لا معايير للمصلحة ولا للصراعات، ولا مكان للقيم والمبادئ والأخلاق، وكل شيء يمكن تبريرُه حسب هوى (أو “مصلحة” إذا ما أردنا استخدام مفردات هذا النظام) فرد أو جماعة أو مؤسسة أو دولة. وقد صوّر أحمد شوقي هذا في مسرحيته “شريعة الغاب” على لسان الثعلب بقول الأخير: “إن الفتى إنْ كان ذا بطش مساوئه شريفة لكن إذا كان الضعيف فإن حجته ضعيفة”.

داخليا ومن الناحية الرسمية، تقوم نظم الحكم على أسس مؤسّسية وتوزيع ما للسلطات، وفي الدول الغربية تحديدا، وهي القوى الأساسية في هذا النظام العالمي، يتمّ الحكم في إطار نظام ديمقراطي تعددي، يتسم بحكم القانون، والفصل بين السلطات، وسيادة المؤسسات المنتخبة شعبيا، واستقلال القضاء، وضمان الحريات وغير ذلك. أما في الممارسة، فيتم إعمال الأركان الأربعة المشار لها، فالسياسة صراع مفتوح ينتصر فيه الأقوى وليس صاحب الحق، والأقوى هو جماعات المصلحة والنفوذ التي قد تكون دولة أجنبية (دولة الاحتلال التي يعمل من أجلها اللوبي الصهيوني في واشنطن)، أو جماعة ذات مصلحة مادية ضخمة (كالمجمع العسكري الصناعي أو شركات الأدوية، ويعمل لها لوبي السلاح ولوبي الأدوية وهكذا). كما يتم تطويع القانون حسب مصالح مختلفة وبأدوات متعدّدة (ولسنا في حاجة إلى انتصار ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة في أميركا لتأكيد ذلك)، والصوت الانتخابي غير حرٍّ في الحقيقة، نظرا إلى دور أجهزة الإعلام والمال السياسي ونفوذ اللوبيات، وغير ذلك.

خارجيا، صُمم النظام العالمي وهيئة الأمم المتحدة من الناحية الرسمية على أساس احتكار الدول الخمس الكبرى لمجريات الأمور عبر نظام الفيتو في مجلس الأمن. أما في الممارسة، فبالإضافة إلى “الفيتو”، وبرغم وجود ميثاق للأمم المتحدة وسلسلة طويلة من المواثيق والمعاهدات الأممية، إلا أن إعمالها في الواقع يتم بما لا يخالف “مصالح” القوى الكبرى، أي بمعايير مزدوجة. ولكل موقف ما يبرره طالما أن مفاهيم القوة والصراع والمصالح لا سقف ولا معايير محددة لها، ولا مكان لقيم وأخلاق مطلقة.

(2)

جاءت دعوى جنوب أفريقيا لتنبيه العالم إلى المعايير المزدوجة تلك، وإلى اختراق المواثيق والمعاهدات التي اتفقت عليها الدول في ظل النظام العالمي الحالي. وذلك حفاظا على إرث نيلسون مانديلا في احترام كرامة الإنسان والنضال من أجل الحقوق المشروعة. كشفت الدعوى ما هو معروف ومنصوص عليه في القوانين والمعاهدات الدولية القائمة، وطالبت فقط بإعماله على دولة الاحتلال بعد عقود من حمايتها واستثنائها من هذه القواعد، بل ومكافأتها من الدول الكبرى ومدّها بالسلاح والدعم اللازمين لاستمرار اعتداءاتها.

قبلت محكمة العدل الدولية بأغلبية ساحقة الدعوى، وأقرّت بحقّ الفلسطينيين في غزّة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، ورأت أن “من وجهة نظر المحكمة، يبدو أن بعض الأفعال التي ادعت جنوب أفريقيا أن إسرائيل ارتكبتها في غزة يمكن أن تندرج ضمن الأحكام (ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية)”. ومع هذا، لم تطلب المحكمة الوقف الفوري للحرب، ويبدو أنها للأسف أخذت في اعتبارها الأبعاد السياسية، لتأمر دولة الاحتلال باتخاذ إجراءات فورية لمنع الإبادة الجماعية في غزة والتحريض المباشر عليها، والتأكّد فورا من أن جيشها لا يرتكب الانتهاكات المذكورة في اتفاقية منع الإبادة، وضمان توفير الاحتياجات الإنسانية الملحّة في القطاع بشكل فوري، ورفع تقرير إلى المحكمة في غضون شهر بشأن هذه التدابير المؤقتة.

اعتبرت جنوب أفريقيا القرار خطوة وطالبت بتنفيذه، أمّا دولة الاحتلال فاعتبرت أنه ضَمِنَ لها الاستمرار في الحرب وما تسمّيه حق الدفاع عن نفسها متجاهلة التدابير ذاتها. ولا شك أن القرار يمثل سابقة فلأول مرة تتم مقاضاة دولة الاحتلال بهذا الشكل، ويمكن البناء عليه لانتزاع قرارات أخرى. لكنه لا يحقق لأهل غزّة الهدف الملح الآن، وهو وقف العدوان فورا، فضلا عن أنه، كما عديد من القرارات الدولية الأخرى، تَرَكَ الباب مفتوحا لتطويعه وتعدّد تفسيراته. وهناك أيضا فيتو مجلس الأمن الذي يعني أن القرارات الأممية، بما فيها قرارات محكمة العدل، لا أسنان لها، ومن ثم، لا شيء يمنع استمرار أميركا في عرقلة أي محاولةٍ لوقف الحرب في مجلس الأمن استنادا إلى قرار المحكمة.

(3)

وبالعودة إلى تفسير هذه المشكلة (عجز النظام الدولي الحالي وازدواجية الدول الغربية الديمقراطية)، يمكننا الإشارة باختصار إلى أمرين. الأول المرجعية الفكرية لهذا النظام، والتي تُفسر الكثير من أبعاد هذه المشكلة، فالمرجعية مستمدّة من الفلسفة الليبرالية بنسختها الراهنة، والتي تُستخدم مبرّرا لكل التجاوزات التي تتم في السياسات الداخلية والسياسات الدولية، وفاقت ما كان روادها الأوائل يتطلعون إليه من تحرير الناس من طغيان الملوك وتجاوزات الكنيسة في العصور الوسطى ومن اعتداءات القوى على الضعيف (ضحايا الحروب النابليونية في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر قُدّرت ما بين ثلاثة ملايين إلى ستة ملايين إنسان، والحرب العالمية الأولى 16 مليونا والثانية 52 مليونا).

الحرية التي تقوم عليها هذه الفلسفة اليوم شبة مطلقة لا قيد أمامها. ومن هنا يأتي الأمر الثاني، وهو الهياكل التي أقامها هذا النظام لإعمال هذه الحرية والأركان الأربعة المشار إليها سابقا، فالدساتير والقوانين التي يُحتكمُ إليها في الديمقراطيات المعاصرة (وكذا المواثيق الدولية في المنظمات الدولية) يمكن دوما تطويعها، لأنها أولاً حيّدت العلاقات والأعراف الاجتماعية والقيم الدينية والروحية، ونظرت إليها أنها مصدر التخلف والصراعات، وثانيا قنّنت فكرتي القوة والمصلحة التي لا سقف لهما، ومن ثم صارت الصراعات أزلية ومفتوحة، أي “صراعات غابة” يحقق فيها القوى (الشركات الكبرى واللوبيات والأغنياء والدول الكبرى) مصالحه ولو على حساب الضعيف (الأقليات والفقراء والمهمّشين والدول الضعيفة).

ما فعلته جنوب أفريقيا هو أنها ألقت، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، أول سهم صوب هذا البنيان المتصدع في الأساس، بعد أن بلغ السيل الزبى وقُتل عشرات الآلاف من المدنيين العُزّل بدمٍ بارد ودُمّرت المستشفيات والجامعات والمدارس والجوامع والكنائس وجُرّفت الطرقات والمزارع ومُنِع الناس من الدواء والماء والكهرباء والوقود على مرأى ومسمع من العالم. هذه ضربة واحدة في الصرح الهش الذي ظنّ أن البشرية يمكنها أن تعيش حسب أهواء الأقوياء وبدون قيم ومبادئ وأخلاق، وأنها مثلُها مثل الدواب، مع اعتذارنا للدوابّ التي لا شك لديها ما يحكمها والذي لا يعرفه البشر. وهي أيضا خطوة لصالح البشرية (قويّها وضعيفها، غنيّها وفقيرها) لأن الاستسلام لهذا النظام يمهّد الطريق لتدمير البشرية في ظل انتشار الحروب ومخاطر السلاح النووي وانتشار الأوبئة واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وغير ذلك.

متى، إذًا، تكون قرارات المحكمة نهائية؟ لا إجابة نهائية في ضوء ما سبق، فللمشكلة جذور فكرية وهيكلية. لكن أمام العرب أن يتفاعلوا مع النظام الحالي بأدواته، فيتحدّوا ويتخلوا عن الخوف الذاتي من إغضاب الغرب ويستخدموا عوامل القوة المتاحة لهم، وهي كثيرة، لانتزاع حقوقهم. وهذا طريق ليس بالصعب إذا ظهرت قيادات ذات إرادة وطنية حقيقية وإذا تم الاستقواء بالشعوب وكل عناصر القوة المتاحة الصلبة والناعمة. أمام العرب وكل الشعوب الحرّة أيضا خيار الاستمرار في مواجهة النظام العالمي عبر العمل المشترك من أجل إلغاء نظام الفيتو في مجلس الأمن، والأهم أيضا جعل قرارات محكمة العدل الدولية فوق بقية الأجهزة في الأمم المتحدة (الجمعية العامة ومجلس الأمن وكل الأجهزة الأخرى)، لتعمل كحكم مستقل (كما هو المأمول من المحاكم الدستورية العليا) يضمن تنفيذ ميثاق الأمم المتحدة ونصوص المعاهدات الدولية على جميع الدول بلا تمييز أو ازدواجية.

مقالات ذات صلة