مذكرة اعتقال بوتين أم اغتيال شخصية؟

عائشة البصري

حرير- عادت محكمة الجنايات الدولية إلى دائرة الجدل بمذكرة التوقيف التي أصدرتها بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيسة مفوضية حقوق الأطفال في روسيا، ماريا ألكسيفنا لفوفا – بيلوفا، بشأن مزاعم جرائم حرب متعلقة بترحيل أطفال “بصورة غير قانونية” من أوكرانيا إلى روسيا. ليست هذه المرّة الأولى التي تُصدر فيها المحكمة مذكرة اعتقال بحقّ رئيس دولة، وهو في الحكم، لكنها أول مرّة تجرؤ فيها على القيام بذلك ضد رئيس دولة نووية تتمتع بمقعد دائم في مجلس الأمن، ما يجعل هذه الخطوة استثنائية في تاريخ المحكمة، وتحمل في طياتها تداعيات سياسية كثيرة وخطيرة داخل روسيا وخارجها.

في محاضرة ألقاها في كلية كينغز كوليدج اللندنية في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، انتقد المحامي كريم أحمد خان قبول المحكمة الجنائية الدولية النّظر في ملفي السودان وليبيا اللذين أحالهما إليها مجلس الأمن، لأنّه لن تتحقق في هاتين القضيتين مُقوّمات العدالة الدولية في غياب تعاون السلطات السودانية والليبية مع المحكمة، بما يحول من إجراء تحقيق جنائي على الأرض يسمح بجمع الأدلة، والاستماع إلى الضحايا والبحث عن الشهود. ولكن السّرعة الفائقة التي حشد بها كريم خان دعم الدول الغربية، وتعبئته كلّ موارد المحكمة وموظفيها من أجل الشروع في تحقيق لن تتحقّق فيه شروط المحاكمة العادلة في غياب تعاون روسيا، توحي بأنه قد تخلى عن هذه القناعات فور تولّيه منصب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية في يونيو/ حزيران 2021، فكفالة المُحاكمة العادلة، حسب قواعد المحكمة، تستدعي، من جملة ما تستدعيه، الحقّ في أن يزوّد كريم خان بوتين ولفوفا – بيلوفا بالأدلة التي تدينهما، إلى جانب الأدلة التي تبرئهما، وأن يعتبرهما بريئين حتى تثبت إدانتهما أمام المحكمة، وأن يلتمس مذكّرة اعتقالهما من الدائرة التمهيدية في المحكمة في حال رفضا أمر المحكمة بمثولهما أمامها بشكل طوعي، وأن تظلّ مذكرة التوقيف سرّية من أجل حماية الضحايا. لا يبدو أن خان قد التزم أو قد يلتزم بهذه الشروط وغيرها، أو أنه سيطبّق في تحقيقه في أوكرانيا مبدأ المحكمة القاضي بالتحقيق في الجرائم المحتمل ارتكابها من طَرَفي النزاع أو أطرافه، إذ لا يوجد مؤشّر على أن مكتب خان يحقّق حالياً في الجرائم التي تزعم روسيا أن القوات الأوكرانية النظامية وغير النظامية قد ارتكبتها منذ بداية الحرب، بما فيها جرائم “بوتشا”.

وفيما يخص التهمة التي يوجّهها مكتب المدعي العام لبوتين ولفوفا – بيلوفا، لا تخلو هي الأخرى من الجدل، فحسب تعريف القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، يُحظر إجبار الأفراد أو المجموعات على النزوح أو ترحيل أشخاص محميين، من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال، أو أي دولة أخرى، ويُستثنى من هذه القاعدة ما يُعرف بـ “إجلاء” المدنيين بدافع “المبرّر العسكري الضروري”، أي لعدم وجود بديلٍ عسكري لعملية الإجلاء التي يُسمح بها إذا اقتضى ذلك أمن السكان. وفي هذه الحالة، يشترط القانون الإنساني الدولي إعادة السكان الذين جرى إجلاؤهم إلى منازلهم فور توقف الأعمال العدائية. بموجب هذا التعريف، يبدو أن من السّابق لأوانه توجيه أي تهمة بشأن ترحيل المدنيين، نظراً إلى استمرار العمليات العدائية بين روسيا وأوكرانيا في منطقة الدونباس التي رُحّل منها المدنيون، بمن فيهم الأطفال.

ولأن مكتب خان لا يرى في هذا الترحيل إجلاءً، فإنه يقول، في نص البيان الذي صدر عن مكتبه بمناسبة مذكرة التوقيف: “مكتبي يزعم أن هذه الأفعال [ترحيل الأطفال] من بين أمور أخرى، تثبت وجود نية لإخراج هؤلاء الأطفال بشكل دائم من بلادهم”. ويستند في تهمة النيات الإجرامية إلى المراسيم التي أصدرها بوتين لتعديل القانون في روسيا لمنح الجنسية الروسية للأوكرانيين، ما قد يسهل عملية تبنّي عائلات روسية الأطفال المُرحّلين، إلا أن هذه التهمة الاستباقية قد تنهار من تلقاء ذاتها بمجرّد إعادة المدنيين إلى موطنهم، وهو ما يستلزم بالضرورة توقّف الحرب في أوكرانيا. ولذلك يشدّد تقرير اللجنة الأممية المعنية بالتحقيق بشأن أوكرانيا، الذي صدر في 16 مارس/ آذار 2023، على أن “التأخير” في إعادة الأوكرانيين المُرَحَّلين إلى منازلهم قد يرقى إلى جريمة حرب، ولا يتهم بوتين أو غيره بنية ترحيل دائم للأطفال وباقي المدنيين، إدراكاً من اللجنة بأن “إدانة النية”، أو “العقل المذنب” يظل من أصعب ما يمكن إثباته جنائياً.

وهنا أيضاً يُطرح السؤال: هل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية تتمتّعان بالحد الأدنى من الواقعية والمسؤولية والإنسانية، وهما يطلبان من روسيا إعادة المدنيين إلى منازل تفحّمت ومناطق خربتها القوات الروسية والأوكرانية عن آخرها، وتكاد تنعدم فيها متطلبات الحياة، وما زالت معرّضة لخطر الحرب، بالنظر إلى التصعيد المستمر في القتل والدمار المتبادل؟ وهل من مصلحة المدنيين العودة إلى ساحة حرب في وقتٍ تشتد فيه ضراوتها ويصعّد الغرب المواجهة مع روسيا ويسود خطر نووي حقيقي؟ تستند اتهامات خان واللجنة الأممية إلى أكذوبة “حماية المدنيين” في سياق النزاع المسلّح، التي تتجاهل تجاهلاً تاماً حقيقة أنّ جلّ حروب العالم “المتحضر” تدور في المدن، فسواء تعلق الأمر بقصف العراق، سورية، اليمن، الشيشان أو أوكرانيا، لم يعد للمدنيين مكانٌ يحتمون فيه جرّاء طبيعة هذه الحروب الحضرية الهمجية. ولهذا السبب بالذات، تجري الإشادة بعملية Pied Piper البريطانية (1938-1940) التي جرى خلالها إجلاء ملايين المدنيين، خصوصاً الأطفال، داخل بريطانيا وخارجها، خلال الحرب العالمية الثانية، لحمايتهم من القصف الجوي للمدن.

ولا يتوقف الجدل عند ضبابية تهمة جريمة الحرب التي يوجّهها كريم خان واللجنة الأممية إلى بوتين ولفوفا – بيلوفا، وتفتقد إلى أساس قانوني رصين، وتتعدّاه إلى نطاق الجريمة ذاتها، فبينما لا يتعدّى عدد حالات “نقل الأطفال من أوكرانيا إلى روسيا” التي وثقتها لجنة التحقيق الأممية 164 حالة، فإنّ مكتب خان يتحدّث عن “ترحيل مئات الأطفال”، بينما تزعم الجهات الأوكرانية، المعروفة بمبالغاتها ومغالطاتها، أنّ الترحيل قد طاول 16 ألف طفل، ما يطرح أسئلة إضافية بشأن الغرض من توجيه تهمة “جريمة حرب” يشوبها تضاربٌ في الحقائق والأرقام، وتدخُل في نطاق القضايا التي لا تتحقّق فيها شروط المحاكمة العادلة التي كان خان بالأمس يحثّ عليها.

يدرك كريم خان وقضاة المحكمة أنّ روسيا غير مُلزمة بالتعاون مع التحقيق، لأنها ليست دولة عضواً في محكمة الجنايات الدولية، فقد وقعت على نظام روما سنة 2000، وسحبت توقيعها في عام 2016 من دون أن تصدّق عليه. ويدركون أيضاً أنّ بوتين لن يضع نفسه في قفص محكمة لاهاي، ولن يسلّم الكرملين الرئيس وغيرَه من المسؤولين، ولن يطأ محقّقو المحكمة الأراضي الروسية لرصد وضع الأطفال المشتبه في نقلهم بشكل دائم، والتماس شهادتهم. حظوظ توقيف بوتين وتقديمه لمحاكمة دولية جد ضئيلة، اللهم إذا تكرّر سيناريو رئيس صربيا ويوغسلافيا الاتحادية سابقاً، سلوبودان ميلوسيفيتش، ونجحت واشنطن وحلفاؤها في إحداث انقلاب على بوتين، والضغط على روسيا لتسليمه إلى محكمة لاهاي التي لا تعقد محاكماتها غيابياً، وهو أمر جدّ مستبعد حالياً.

في هذا السياق، تَبطُل الدوافع القانونية الموضوعية لملاحقة بوتين ولفوفا – بيلوفا، لتفسح المجال أمام دوافع سياسية تؤكد مرّة أخرى أن محكمة الجنايات الدولية، كباقي المنظمات الحكومية الدولية، تعمل حسب أجندات سياسية تُبلورها كبرى الدول الأعضاء في المحكمة، حلفاء أميركا تحديداً: فرنسا وألمانيا وكندا وبريطانيا التي رشحت حكومتُها خان لمنصب المدّعي العام بالمحكمة، وأشادت بأنّه “يجمع بين مهارات الادّعاء، والإدارة، والحسّ السياسي”. اليوم، بالنيابة عن واشنطن وحلفائها، يخوض المدعي البريطاني معركة سياسية تحت غطاء قانوني، لا تهدف إلى إحقاق العدالة التي لا يكترث لوضعها في فلسطين أو سورية، ولا تسعى إلى ردع بوتين كما تدّعي المحكمة، بل تعمل على استفزازه، وإضعافه وعزله، وعزل بلاده على نحوٍ قد يزعزع نظامه، ويُسهّل الطريق أمام قلبه من الداخل أو الخارج.

داخلياً، تضرب مذكرة الاعتقال هيبة بوتين وتزعزع صورته وتنتقص من سلطته، بعد أن أصبح مطلوباً للعدالة الدولية، وغير قادر على السفر بحُريّة إلى 123 دولة عضواً في المحكمة. ويمكن فهم زيارتيه المُفاجئتين إلى شبه جزيرة القرم ومدينة ماريوبول غداة إصدار المحكمة مذكرة توقيفه أنهما محاولة للدفاع عن صورة الرئيس القوي، الحرّ، القادر على تحدّي المحكمة والقيام بزيارة حتى داخل الأراضي الأوكرانية. لكنّ هذه الخطوة لا تنفي حقيقة أنّ المذكرة قد ضيّقت الخناق على الرئيس الروسي وفرضت قيوداً على سفره وحركته خارج البلاد وربما حتى داخلها. وبما أنّ المحكمة لا تتوفّر على أي جهاز أمني لإنفاذ أحكامها فإنها تعتمد على تعاون الدول الأعضاء الـ 123 الذين أصبحوا مُطالبين بتوقيف بوتين إن قام بزيارة بلدانهم، ولو أن ذلك لا يعني بالضرورة التزام الدول بهذا المطلب. فلقد استقبلت 14 دولة عضواً في المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، بما فيها الأردن، ورفضت كلّها تسليمه للمحكمة بدعوى أنه يتمتع بحصانة باعتباره رئيس دولة يباشر الحكم في بلاده. إلّا أنّ مذكرة توقيف بوتين ستزيد من حرج رؤساء الدول الراغبة في مواصلة علاقاتها الدبلوماسية مع روسيا، خصوصاً الصين التي زار رئيسها، شي جين بينغ، نظيره الروسي، وسط ضغط متزايد من واشنطن وحلفائها لإنهاء هذه الشراكة، مثلما وضعوا حدّاً للتقارب الروسي – الألماني. ومن أخطر تداعيات ملاحقة بوتين قضائياً أنها تقوّض فرص السلام والتسوية السياسية في ضوء ردود فعل روسيا وأوكرانيا، حيث علّق المدّعي العام الأوكراني، أندريه كوستين، على المذكّرة بقوله إن قادة العالم سيفكّرون مرتين قبل مصافحة بوتين أو الجلوس معه على طاولة المفاوضات. ويقابل الرفض الأوكراني التفاوض مع بوتين بشأن السلام ما دام مطلوباً للعدالة، اشتراط وزارة الخارجية الروسية إلغاء جميع العقوبات المفروضة على موسكو والدعاوى “غير القانونية” قبل الحديث عن أي تسوية سلمية للحرب في أوكرانيا.

ومن أشد المفارقات سخرية أنّ المحكمة، وقد صبّت الزيت على نار الحرب في أوكرانيا، فإنّها تساهم في تأخير موعد عودة الأطفال إلى ديارهم بتأخيرها فرص السلام. ساهم قرار ملاحقة بوتين شخصياً في تأجيج النزاع وتصعيده باسم العدالة، بما يخدم الحرب الدعائية التي تخوضها واشنطن وحلفاؤها في حرب الغرب بالوكالة في أوكرانيا، والتي تدور حول “اغتيال شخصية” بوتين، فاغتيال الشخصية السياسية، كما وثقها الخبير الاستراتيجي جايسون جاي سمارت، هي بالأساس استراتيجية سياسية في العلاقات الدولية، تهدف إلى تدمير مصداقية خصم سياسي رفيع المستوى في الساحة الدولية. وما أنجزته مذكّرة اعتقال بوتين مساهمة في اغتيال شخصية بوتين بترويجها صورة الرئيس “سارق الأطفال”، قائداً منبوذاً دولياً، مجرم حرب، خارجاً عن القانون وهارباً من قفص العدالة الدولية.

وحتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، عجّت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي بقصص وصور وكاريكاتيرات تشبّه بوتين بهتلر، رمز الشرّ المطلق، وانتشر بعد الغزو هاشتاغ #بوتين هتلر، متصدّراً وسائل التواصل الاجتماعي في أوروبا. ونتذكّر كيف اغتال ساسة الغرب وإعلامه شخصية الرئيس العراقي صدّام حسين قبل اقتياده إلى حبل المشنقة، بمجرّد أن حوّلوه إلى هتلر العرب، كي يتسنّى لهم غزو العراق وتدميره وزعزعة استقرار المنطقة. ويُتوقع أن يواجه بوتين تهماً أخرى قد تبلغ حدّ الهَتلرة (من هتلر) إن وجَّهت إليه المحكمة تهمة “الإبادة الجماعية” أو “جرائم ضد الإنسانية”. لن يهمّ حينها إن كان مذنباً أو بريئاً من تهمٍ كهذه، فالتهمة أشد من القتل، وروسيا اليوم ليست كروسيا البارحة، ومذكّرة الاعتقال وضعت سيف العدالة الانتقامية على رقبة بوتين، وكأنها تخطّ بداية نهايته، سياسياً على الأقل.

مقالات ذات صلة