بايدن وجهاً لوجه أمام صلف نتنياهو

محمود الريماوي

حرير- اجتمع في باريس يوم 27 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) مسؤولون أميركيون ومصريون وقطريون بمشاركة مسؤولين أمنيين إسرائيليين يمثلون الموساد والشاباك. تدارسوا أبعاد الحرب على غزّة وضرورة وقف التداعيات الكارثية على أبناء القطاع، وأهمية الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، وقد انتهى الاجتماع الذي استغرق يوما بوضع إطار عام يمهد لاتفاق نهائي، وهو ما بات يُعرف باتفاق المراحل الثلاث للإفراج المتدرّج عن أسرى من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وذلك ضمن ثلاث هدن متتابعة، مدة كل منها 45 يوما مع تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع.

وبما أن الاتفاق الإطاري يجب أن يحظى بقبول الطرفين المعنيين مع الحق في إبداء ملاحظات، فقد تم عرض المقترح الأميركي المصري القطري على حركة حماس التي تدارسته، وأرسلت، بالتزامن مع جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ردّاً إيجابياً مشفوعاً بملاحظات إجرائية، وقد أرسلت قطر، نيابة عن أطراف الاتفاق، رد “حماس” إلى الموساد ومنه الى حكومة بنيامين نتنياهو. مع العلم أن رد الحركة كان موجّهاً، في الأساس، إلى الأطراف الراعية للاتفاق الإطاري، إلا أنه من المفهوم أن تطلع حكومة الاحتلال على الرد. وقد جاء رد الفعل الإسرائيلي، من خلال نتنياهو نفسه، الذي عقد مؤتمرا صحافيا لهذا الغرض، بغياب ضيفه بلينكن، وقد ركّز نتنياهو على أنه يسعى إلى “النصر المطلق” عبر حربٍ لا تتوقف، وعلى أن تحقيق هدفه سوف يستغرق شهوراً لا سنوات. وفي تصريحات أخرى، نعت نتنياهو ملاحظات “حماس” بأنها “واهمة” و”مجنونة”.

بهذه الطريقة الالتفافية تهرّب الرجل من الردّ على مقترحات الوسطاء، بل أشاع انطباعا قائما على الخلط المتعمّد بين مقترحات الإطار ورد “حماس” على تلك المقترحات، علماً أن ممثلين للمؤسّسة الأمنية للاحتلال شاركوا في اجتماع باريس، وفي ما تمخّض عنه من مقترحات. كما تهرّب نتنياهو من الرد على مقترحات الوسطاء وكأنها لم تكن، وبين الوسطاء مدير المخابرات المركزية الأميركية ويليام بيرنز. ومعلوم أن البيت الأبيض أبدى تفاؤلا بما جرى التوصل إليه في اجتماع العاصمة الفرنسية، وبناء على هذه التفاؤل، الحذر بطبيعة الحال، توجّه رئيس الدبلوماسية أنتوني بلينكن إلى المنطقة. وبهذا، فإن سهام الصلف الإسرائيلي توجّهت هذه المرّة إلى وليّ النعمة في واشنطن، وبينما كان بلينكن يردّد في تل أبيب الملاحظات نفسها عن “العدد الكبير جدا من القتلى المدنيين”، فقد ارتكبت قوات الاحتلال في اليوم نفسه، الأربعاء الماضي، 13 مجزرة بحقّ المدنيين أودت بحياة 123 شخصا، عدد منهم ممن كانوا يسعون إلى الحصول على مياه الشرب، وتلك هي طريقة الرجل ومجلس حربه في التمتّع بنصرٍ مطلق.

بدا بلينكن مصدوماً هذه المرّة، ولم يجد ما يقوله سوى إن مزيدا من العمل ينتظره للحصول على نتائج مُرضية، وقبل ذلك بأيام، كان قد صرح عقب اجتماع ضمه إلى رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في واشنطن: “أنجز عمل مهم جدا وبنّاء. وهناك بعض الأمل الحقيقي بينما نمضي قدما”، فيما أبدى قدراً من الارتياح المتحفّظ لرد حركة حماس على الإطار العام، واعتبره ردّا يفتح الطريق إلى اتفاق. فاذا بمضيفه الإسرائيلي يبدي استخفافا بالجهود الأميركية وبجهود مصر وقطر، مبيناً أن الشاغل الوحيد الذي يشغله مواصلة الحرب ولا شيء آخر، الحرب التي يكاد العالم بأسره يُجمع على أنها تنتهك كل القواعد.

في اليوم نفسه، نقل موقع قناة الحرّة عن مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية قوله: “نجري محادثات مع الإسرائيليين كل يوم بشأن عدد من القضايا الإنسانية المختلفة، ونُحرز تقدّما بشأنها، ولكن للحصول على اختراقات حقيقية بشأن بعض الأشياء الكبيرة، يجب أن يحدث أحد الأمرين: يجب أن يحضر الوزير، أو يجب على الرئيس أن يتصل هاتفيا برئيس الوزراء”. وقد حضر الوزير بلينكن هذا الأسبوع إلى تل أبيب، وجوبه هذه المرّة بصدِّ لا مثيل له، إذ دار بينه وبين نتنياهو ما يشبه حوار الطرشان، فهل على الرئيس جو بايدن أمام هذا الاستعصاء أن يهاتف نتنياهو، وفق تقديرات المسؤول الكبير في الخارجية الأميركية؟ مع التذكير بأن آخر محادثة هاتفية بينهما قبل أسابيع كانت صعبة، وقد قطعها بايدن بقوله: المحادثة انتهت.

لطالما اعتبر الرؤساء الأميركيون دعمهم الاحتلال الإسرائيلي مصدر قوة داخلية لهم، غير أن هذا الدعم بات يمثل لبايدن الذي يسعى إلى رئاسة ثانية نقطة ضعف، فالقاعدة الشبابية للحزب الديمقراطي تعيب على الرئيس دعمه حرباً وحشية على غزّة، والأميركيون المسلمون ومن أصل عربي يجاهرون بأنهم لن يصوّتوا له هذه المرّة (ولا لمنافسه دونالد ترامب). ويريد الجمهوريون في الكونغرس تقليص الدعم لأوكرانيا مقابل زيادته لتل أبيب، ويريد نتنياهو مزيدا من الدعم الأميركي مع إعلان “حقّه” في التمرّد حين يشاء على أي تفاهم مع واشنطن. ولم يفلح إعلان بلينكن عن يهوديته في زيارته الأولى لتل أبيب بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولا إعلانات بايدن المتكرّرة أنه صهيوني، في إرضاء نتنياهو وحكومته. وسبق لبايدن أن صارح نتنياهو بضرورة تغيير حكومته، والمقصود التخلص من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، والاستعاضة عنهما بيائير لبيد وبني غاتس، لكن نتنياهو لا يصغي لهذا المقترح الذي عرضه لبيد علناً، فالرجل لا يجد أكثر من بن غفير وسموتريتش من هم أقرب إليه أيديولوجياً في نزعته الاستئصالية بحق شعب فلسطين، وقد أقدمت واشنطن، أخيرا، على فرض عقوبات على أربعة من عتاة المستوطنين. وقد أوضحت، في الوقت ذاته، أنها لا تعتزم فرض عقوباتٍ على أيٍّ من أعضاء الحكومة. ولعلّ البيت الأبيض، في ضوء جموح نتنياهو، يراجع الآن خياراته، ويقرن تحفّظه الشديد على الوزيرين الأشد تطرفا وصلفا بفرض عقوباتٍ عليهما، إذ إن هذا ما يسمح في هذه الظروف بإطلاق حراك سياسي إسرائيلي. مع الإشارة إلى أن كلا من لبيد وغانتس المشارك في حكومة الطوارئ ليسا أقل تطرّفا من نتنياهو، والفرق أن تطرّفهما ناعم، ويعبّران عنه بصوت خافت. ومع فارق إضافي أنهما يُصغيان للحليف الأميركي ويتعاملان معه باحترام، ويراعيان متطلباته، خلافا للبلطجي نتنياهو الذي يمدّ يده لواشنطن طلباً للمساعدة، ثم يحاول أن يلوي اليد الممدودة إليه.

مقالات ذات صلة