ماركيز صديق العرب… الكاتب العماني سليمان المعمري

ذات يوم من عام 1979 كان جابرييل جارسيا ماركيز (الروائي العالمي الشهير الذي يُحيي محبّوه اليوم ذكرى رحيله السابعة في 17 إبريل 2014) في قاعة الانتظار بمطار الجزائر الدولي منتظِرًا تحليق طائرته إلى كوبا، حيث كان يقيم حينئذ، فشاهد مسافرًا عربيًا بعقال يحمل صقرًا في يده. في تلك اللحظة تخمرت لديه الفكرة النهائية لرواية كانت تراوده منذ نحو ربع قرن، ألا وهي روايته الشهيرة “وقائع موت معلن” المبنية على حادثة قتل حقيقية عايشها ماركيز في مدينته في بداية خمسينيات القرن الماضي، وكان القتيل أحد معارفه. غَيَّرَ ماركيز أصل القتيل واسمه الحقيقي كايتانو جنتيل تشيمنتو، وجعله عربيَّ الأصل اسمه سانتياجو نصار، الذي يتعرض للقتل بسبب قضية شرف.

يروي هذه الحكاية الكاتب البريطاني جيرالد مارتن مؤلف سيرة حياة ماركيز، ويهمني منها أنها مفتتح جيّد للحديث عن علاقة الأديب الكولومبي الشهير بنا نحن العرب، وهي علاقة وطيدة أستطيع الزعم من تتبع تفاصيلها أن ماركيز ينطبق عليه المثل العربي: “رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك”. بدأت هذه العلاقة قبل تلك الحكاية بسنين طويلة عندما تعرف على رفيقة دربه مرسيدس بارشا ذات الأصول العربية من مصر وتزوجها عام 1958 واستمرت علاقتهما نحو ثُلُثَي قرن حتى وفاته.
الحكاية الثانية، لا تبعد عن الجزائر أيضًا، لكن الراوي مختلف. إنه ماركيز نفسُه، حيث يروي في مقالٍ له نشرته صحيفة “إلبايس” الإسبانية عام 1982 أنه تأثر خلال إقامته بباريس في خمسينيات القرن الماضي بالثورة الجزائرية. ثمة طبيب جزائري اسمه أحمد الطبال تعرف عليه ماركيز في أحد سجون باريس، وصار – بعد السجن – أحد أعزّ أصدقائه في فرنسا، وتعرف من خلاله على عدالة القضية الجزائرية، وصار يحرص على لقاء مناضِلين بجبهة التحرير الوطني في الجزائر. ولكن ما الذي أودى بماركيز للسجن أصلًا؟. يجيب عن هذا السؤال الصحفي الكولومبي داسّو سالديفار في كتابه «جارسيا ماركيز، سفر إلى الينبوع»: «لم تكن حرب الجزائر تحتل الساحة الإعلامية بعد، ولكنها كانت واقِعًا مهدِّدًا لجابرييل جارسيا ماركيز لسُحنته العربية، وقد دفع الثمن، إذ لدى خروجه من قاعة سينما ذات مساء، اعتقد شرطة فرنسيون أنه جزائري، فأوسعوه ضربًا ونقلوه إلى مقر الشرطة في “سان جيرمان ديبريه” مع جزائريين حقيقيين، حزينين وذوي شوارب مثله، وتلقوا هم أيضًا الضربات”. وفي هذه الفترة أنجز ماركيز – الذي نعرف أنه بالإضافة إلى كونه أحد أهم الروائيين في العالم هو أيضًا صحفي لا يُشَق له غبار – العديد من التقارير الصحفية عن حرب الجزائر وعن العدوان الثلاثي على مصر، أو ما سُمِّي حرب قناة السويس.
لكن الحكاية الأهم في علاقة ماركيز بالعرب هي حكايته مع القضية الفلسطينية التي كانت مثالًا بارزًا على انحياز المثقف للقضايا الإنسانية العادلة، في وقت انحاز فيه أدباء ومثقفون عالميون كُثْر لإسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني، والتزم آخرون الصمت خوفًا من اتهام إسرائيل لهم بمعادة السامية. يتداعى هنا إلى الذاكرة بيانه الشهير سنة 2002 عقب المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق المواطنين الفلسطينيين في طريقها لإعادة احتلال مدن في الضفة الغربية. في هذا البيان الذي أضحى اليوم وثيقة مهمة في إدانة الممارسات الإسرائيلية أبدى ماركيز إعجابه غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطيني “الذي يقاوم الإبادة، على الرغم من إنكار القوى العظمى أو المثقفين الجبناء أو وسائل الإعلام أو حتى بعض العرب لوجوده”. وكان ماركيز قد سبق هذا التضامن مع الفلسطينيين عام 2002 بتضامن مماثل عقب مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982، حيث نشر بعد المجزرة بأسبوعين مقالًا تهكم فيه على منح جائزة نوبل للسلام لمناحيم بيجين (الذي كان رئيس وزراء إسرائيل آنئذ) واعتبر هذا أمرًا لا يصدق، وقال حرفيًّا: “لا توجد جائزة نوبل للموت، ولكنها إذا وُجِدتْ فقد تُمنح هذا العام (1982) وبدون منافسة، لمناحيم بيجين وسفاحه أريئيل شارون”. بعد أيام من نشر هذا المقال في صحيفة “إل إكسبريسو” الإكوادورية في 3 أكتوبر 1982 فاز ماركيز نفسه بجائزة نوبل للأدب، هذه الجائزة التي لا خلاف على استحقاقه لها، ومع ذلك لم يتورّع عن القول في بيانه عام 2002 إنه يخجل من ارتباط اسمه بها، فقط لأنها سبق أن مُنِحتْ لقاتل كمناحيم بيجين.
أين من ماركيز اليوم بعض إخوتنا وبني جلدتنا الذين يتهافتون على إسرائيل، ويُبرِّرون جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، بل وبلغت الوقاحة بهم حدّ تهنئتها بما تسمّيه “يوم الاستقلال” الذي هو ليس سوى يوم النكبة الفلسطينية.

جريدة عمان . 17 إبريل 2021

نوافذ: ماركيز.. صديق العرب

غابرييل غارثيا  ماركيز

مقالات ذات صلة