قسمة ضيزى

بقلم الدكتور سالم الفقير
#قسمة_ضيزى
في حياة طالب الجامعة، أهم شيء المصروف، فكل الذي دونه هيِّن!! ولأننا كنا نقنع بأبسط الأشياء؛ لم تكن تُشكِّل لنا تلك الحياة ببذخها وهمها وصرامتها شيئا…!! كانت الأمور تجري على سجيَّتها، ونحن لا نغالبها في شيء… لكن أكثر ما كان يستفزني هو وجود الفقر مع الوقوف على الأطلال _على اعتبار أنها حجرة من حجرات القلب_ نغالب الشوق والحنين، ولا يغالبنا!! حتى رأينا أن “أبا نؤاس” قد شفى غليلنا بقوله:
دع الأطلال تسفيها الجنوب
وتبلي عهد جدتها الخطوب
ومع ذلك لم يترك لنا صديقي عبدالقادر السعودي المولع بمحمد عبده _آنذاك_ مساحة من الشعور بأن ما نعيشه الآن هي مرحلة مليئة بالكذب والخداع، والجوع والألم؛ لذا اضطررنا أن ننساق خلف هذا الضباب!!
صباح أي يوم كان يعني لنا أشياء كثيرة، فالطريق إلى جامعة الحسين مليئة بالأموات؛ بحكم قرب المقبرة من الجامعة، ومسار الرحلة يكاد يكون واحدا!! يخلو من فيروز، ومن قهوة الصباح… مليء بالدخان، والضحك الكثير على من بات وقد خسر أكثر من عشرين مرة في لعبة الشَّدة، كنا مشهورين فيها حد التَّمرد…
نستجلي الصباح بتمتمات تترك فينا أشياء لا معنى لها، نردد فيها:
صوني جمالك عنَّا إننا بشر
خَلْقَ التراب، وهذا الحسن روحاني
كان من المعيب على أحدنا أن يردد شيئا من “مياعات” ذلك الزمن؛ فنحن لا زلنا أبناء القرى، وهذا ما كنا نجده بيننا دون تردد…
قهوتنا كانت في الثامنة إلا ربع صباحا، من أمام بوابة الجامعة، يصنعها رجل يمتلك “قلاب مرسيدس بوز” موديل الخمسينيات وربما الأربعينيات، يقودنا إليه التَّعب، والسَّهر، والجوع، لكن قهوته كانت طيبة، يكرمنا مع كل كاسة حبة “شوكولاتة” وهذا ما جعل العهد علينا أن تكون القهوة _في حال توفرت النقود_ من صنعه… لكن الأمر مختلف تماما، فربما يكون نصيبنا منها ثلاث مرات في الأسبوع فقط، أو أقل، ولا بد أن تكون هذه المرات الثلاث في بداية الأسبوع؛ قبل أن يذهب المصروف أدراج الهوان والبين….!
حكاية المصروف وتقسيماته ليست بحاجة إلى جهد جهيد، وجلوس مع الذات… عشرة دنانير كل أسبوع، ديناران منها أجرة للباص ذهابا وإيابا، ودينار لعلبة “الجِل”؛ لنعومة شعري المفرطة!! وأخرى لعلبة عطر زيتي؛ لتكون صديقة نهاية الأسبوع، وفي الأغلب كانت تتأرجح بين “الهوغو بوس، واللابيدوس” لكنه “أبو النيرة، بس ثقيل!!” وثلاثة فناجيل قهوة بخمسة وسبعين قرشا!! وما تبقَّى أوزعه على اليتامى والأرامل والمساكين والمطلقات وأبناء الحراثين ومن تقطعت بهم السُّبل، واللصوص، والشحاذين، من الطعام والشراب، وتصوير المواد على مدار خمسة أيام!! ولك أن تترك لليلك الطويل سيجارة وينستون، وأنت تُحدِّق في سقف الغرفة؛ لتعود على مضغ المسجل للشريط؛ فتتركه يلوكه ويلوكه ويلوكه، وأنت تبصق عليه من بعيد، بعد أن كدَّر صفوك، على اعتبار أن كلَّ الأشياء كانت جميلة لولا هذا المسجل اللعين، الذي بتر روحك عن روح ميادة!!
على الوسادة تبدو الخربشات واضحة ومتداخلة!!! لكنَّ عبارة واحدة كانت تترك أثر حبرها على وجهي كلما شددت الوسادة عليه:
” إلى أين تمضي يا غلغامش؟!”
كنت أجيب عليها قبل أن أنام:
إلى ج ه نَّ م….!! ولا أنام حتى الصباح.

#من_مخطوط:
#نصوص_ليست_للقراءة
#مذكرات_طالب_في_جامعة_الحسين

د. سالم الفقير
#الجنوبي
الواحدة صباحا، لثمان مضين من نيسان من العام الثاني للكورونا.

مقالات ذات صلة