جنين… خطورة حرْف البندقية الفلسطينية

أسامة عثمان

حرير- شهدت مدينة جنين، في الضفة الغربية، تبادلًا لإطلاق النار بين محتجِّين وقوات الأمن الفلسطيني على خلفيَّة اتِّهام المحتجِّين قوةً أمنية فلسطينية بقتل شابٍّ فلسطيني. قد تكون هذه الحالة الخطيرة بداية تحوّل إلى ما يصعُب الخروج منه، حين تقع أطرافٌ مقاوِمة في دائرة المواجهة المسلَّحة مع قوات أمن تابعة للسلطة الفلسطينية. وفي هذا مساسٌ بنقاء صورتها القائمة على المواجهة مع الاحتلال ومستوطنيه.

وفي هذه النقلة الصعبة حسمٌ من رصيد حركات المقاومة، ومن وجاهة وجودها، وشرعيَّته، إلى حافّة الاتِّهام بالاعتداء على أرواح فلسطينيين، أو التسبُّب في فتنة داخلية؛ الأمر الذي لا يؤدِّي إلى خساراتٍ بشرية، فقط، على فداحة هذه الخسارات، وآثارها الاجتماعية والأهلية، ولكن، أيضًا، إلى خلخلة البُعْد الاستراتيجي، في هذه المرحلة المصيرية، من الصراع.

تأسيسًا، يلزم التأكيد على رفض موقف السلطة ودورها، وعقيدتها السياسية والأمنية القائمة على التناقض مع المقاومة المسلَّحة، ومع ما قد يتسبَّب به هذا الدور من صدامات وردّات فعل وتآكُل قدرة المقاومين على ضبط النفس. وأكثر ما يتجلَّى ذلك في المواقع التي تحتدم فيها المواجهة مع قوات الاحتلال، حين تمتزج جسامةُ التضحيات بمرارة الخذلان، فبدلًا من بلسمة الجراح تُنكَأ.

كما يلزم إذا أردنا وضع هذه الحالة في سياقها، أن نستذكر الاجتماعات الأمنية، كاجتماعي العقبة وشرم الشيخ، وهما برعاية أميركية، حيث جرى الربط بين اضطلاع السلطة الفلسطينية بدورها، ضبط ظاهرة اتساع التشكيلات الفلسطينية المسلحة، في جنين ونابلس، وغيرهما، وإقلال قوات الاحتلال اقتحاماتها لمناطق السلطة، وهو الأمر الذي يحرج الأخيرة، ويُمعن في إضعافها.

وهنا رسالتان، تتعلَّق الأولى بشباب المقاومة، وتتعلَّق الثانية بالسلطة. أما المقاومة، فإن استمرارها في ضبط أفرادها، عن استهداف قوات أمن السلطة، برغم ما يَلْحَقُهم، جرّاء التعارض مع السلطة، أمرٌ لا مَحيد عنه، ولا خيار غيره، على صعوبة الاستمرار في التزامه. أولًا، لأن وقوع اعتداءٍ من أحد أفراد الأمن لا يجيز استباحة دماء مجموعهم. وثانيًا، لأن الخلاف هنا ليس شخصيًّا فرديًّا، يبقى محصورًا في دائرته الضيِّقة، إنما خلافٌ ذو طابع سياسي، مِن طبيعته التوسُّع. وثالثًا، لأن المواجهة مع السلطة لا ينفع فيها أنْ تكون مسلَّحة، فأجهزتها مكوّنة من فلسطينيين (ولو كانت السلطة متورِّطة، سياسيًّا، في أدوار غير مقبولة)، وليس أدلّ على ذلك مِن انطواء هذه الأجهزة على أفراد لا ينفكُّون عن قضيَّتهم، بل منهم مَن لم يمنعه انتماؤه إلى تلك الأجهزة من الانحياز إلى المقاومة، والتنكيل بقوَّات الاحتلال، بعد التضحية بأرواحهم، فالوضع متشابك، ونحن لا نستطيع إصدارَ حُكْمٍ عام بتجريم كلِّ منتمٍ إلى تلك الأجهزة، ثم استباحة دمه، لمجرَّد هذا الانتماء. وهذا لو حصل، يحمل جهاتٍ نافذةً في السلطة إلى الاستراحة إلى سندٍ قانوني، وتوصيف مَن يرفع السلاح عليها، ويقتل أفرادها، بصفات الخروج عن القانون، والإجرام، وتجريدهم من وصف المقاومين.

هذا، فوق الأضرار الأهلية والاجتماعية الكبيرة الناجمة عن استجازة تلك الردود الدموية. أما التداعيات الاستراتيجية على مجمل الصراع، لجهة تشويه نقاء صورته، من مشهديةٍ بسيطة، قائمة على محتلٍّ معتدٍ يقاومه الواقعون تحت الاحتلال. وفي هذا تدعيم للأحقيَّة النضاليَّة، عالميًّا، وعربيًّا، وإسلاميًّا، وتظهير لصورة المحتلّ العدوانية، إلى صورة عكِرة، تسمح بصرف الأنظار عن أصل الصراع، كما أن من شأن الانزلاق إلى مثل هذه الردود الثأرية أن يُوهِن عزيمة الفلسطينيين، ويَحْرِم المقاومة من قدرتها على توحيد الشعب الفلسطيني، بمجمله، في إطار هذه المواجهة. ولنا في ما حدث في مخيَّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، من اقتتال دامٍ صدىً مقلق، حيث الدخول، لا قدّر الله، في دائرة عقيمة ومؤسية.

أما رسالة السلطة، وهي تعلمها، فهي أنّ الاحتلال لا يبالي بالسلطة، وخصوصًا مع هذه الطغمة الحاكمة من العنصريِّين المستهترين بقواعد اللعبة من أساسها. طبعًا، هذا لا يعني أن حكومة الاحتلال الحالية تعمل على التخلُّص من السلطة، أو تُنكر أهميّتها، ولكنها لا تبدو حريصة على الحفاظ عليها، بأيِّ ثمن، فضلًا عن الحفاظ على صورتها أمام شعبها.

ومن الناحيتين الوطنية والأخلاقية أسْلَمُ للسلطة أنْ تكون ضعيفة، بوصف الاحتلال أو الأميركان، لأنها ترفض التوغُّل في استعداء شعبها، والأخذ الكامل والصريح لدور الاحتلال، على أنْ تنال رضاهم، هذا إن حصل؛ ذلك أنها، على رغم الانتقادات غير الهيِّنة التي تتعرَّض لها، لا يزال بإمكانها إظهارُ مسافةٍ تفصلها عن التماهي الكامل مع الاحتلال، وهي برغم ضعف شعبيّتها، إلا أنها لا تزال تحظى بتأييد قطاعاتٍ من الفلسطينيين لأسباب تنظيمية، أو لكونها، في نظرهم، لا غنى عنها، من الناحية الواقعية، ولتسيير حياة الناس في مجالاتٍ حيوية، ولضبط النزاعات الاجتماعية وما شاكل.

نقول هذا ونحن ندرك أن استمرار هذا التناقض في التعاطي مع القضية الفلسطينية، بين سلطةٍ لا تزال ترى جدوى الحلول السلمية، التفاوضية، برغم تجاهُل حكومة الاحتلال التام وجود الشعب الفلسطيني، وفرص حياته، ومقدّراته ومقدَّساته، وحركات المقاومة التي ترى ضرورة التصعيد بكلِّ أشكاله ضدَّ المحتل، بالتوازي مع تصعيده واعتداءاته المتواصلة، أنَّ استمرار هذا التناقض هو مبعث مواجهةٍ يكاد يتعذَّر تجنُّبها، وإن كان لا بدَّ منها، فلتكن دون الوصول إلى اقتتال، حتى مع إصرار السلطة الفلسطينية على ما هو مرفوض مِن اعتقالات سياسية.

وحتى لو كانت مواجهة، فليكن الرأي العام الفلسطيني حكَمًا، والشعب الفلسطيني لا يزال محكومًا بتأييد المقاومة، والمسلَّحة منها، هذا الشعب لا يزال يمجِّد عمليات المقاومة، وشهداءَها، ومناضليها، وخصوصًا وهو لا يرى أيّ أفقٍ لسلام، أو حتى أيَّ وقفٍ لاعتداءات قوات الاحتلال والمستوطنين، ولا يرى كذلك في السلطة الفلسطينية أيّ توجُّهٍ حقيقيٍّ، أو رسميّ، نحو حمايته، أو تمكينه من الدفاع عن نفسه دفاعًا رادعًا.

فالعار والنَّبْذ، والحالة هذه، لن يكون، بالتأكيد، من نصيب المتجرّدين للمقاومة، عندما يقبضون على الجمر، ويحافظون على نقاء السلاح، من دون انحراف، أو ارتباك.

مقالات ذات صلة