مغالطات اللاسامية التي لا يُراد سماعُها

عبد الفتاح ماضي

حرير- تتصاعد حدّة الحديث عن ظاهرة “العداء للسامية” منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول. وباسم مكافحة هذه الظاهرة، يتعرّض من ينتقد حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزّة إلى التنمّر والملاحقة، بل وشرعت بعض الحكومات الغربية في تقييد الحريات وتكميم الأفواه في الجامعات وخارجها. تُخفي حجّة العداء للسامية في داخلها مغالطات وتناقضات عديدة، أعرض خمسًا منها.

أولا: نقد السجل العدواني لدولة الاحتلال في فلسطين ودعم مقاومة المحتل (والمقاومة حقّ تكفله المواثيق الدولية) التي تستهدف إنهاء الاحتلال هو ما يُطْلَق عليه في الغرب، بشكل خاطئ، اليوم معاداة السامية. وليس هذا النقد موجها إلى اليهود لكونهم يهودا، وإنما للمعتدين، بغض النظر عن الدين. وتمثل حرب الإبادة الحالية في غزّة حلقة واحدة في سجل دولة الاحتلال المليء بالانتهاكات الأخرى، كإقامة مستوطنات يهودية على أرض محتلة، وتغيير الطابع الديمغرافي والجغرافي للأراضي المحتلة، وهدم البيوت، وتجريف الأراضي، وبناء الجدر العازلة، فضلا عن التمييز على أساس ديني تجاه عرب 1948. وفي خارج فلسطين، دمّرت دولة الاحتلال مدن القناة الثلاث في مصر، وقتلت الأسرى المصريين عام 1967، وغزت لبنان، وارتكبت عدة مجازر هناك، واعتدت عسكريا على سورية والعراق وتونس والسودان. وأخيرا وليس آخرا، تنتهك دولة الاحتلال عشرات الاتفاقيات الدولية والقرارات الأممية التي تدين مثل هذه الممارسات والانتهاكات.

ثانيا: أطلق مصطلح اللاسامية الصحافي الألماني ڤلهلم مار عام 1879 الذي أنشأ ما سمّاها “عصبة معاداة السامية” للتحذير من خطر اليهود على الشعب الألماني، معتبرا أن هناك اختلافًا عرقيًا بين اليهود والألمان، وأن التحرّر الأوروبي والألماني سمح لليهود بالسيطرة على قطاعات المال والتصنيع، وداعيًا إلى ترحيلهم قسريًا من ألمانيا. بمثل هذه الأفكار وغيرها، أضحَت كراهية اليهود تُبرّر بمزاعم بيولوجية وعرقية، ما ساهم في ميلاد نظرية العِرق التي شاعت بقوة في أوروبا ضد أقلياتٍ عديدة، وعلى أساسها جاءت النازية لاحقا.

ولظاهرة العداء لليهود في أوروبا جذور دينية واجتماعية واقتصادية أقدم. وباختصار شديد، أصبح إقصاء اليهود عقيدة كَنَسية مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، وصدرت قرارات البابا بارتداء اليهود علاماتٍ تميّزهم شأنهم في ذلك شأن فئاتٍ مُهَمَّشة كالمصابين بالجُذام والبغايا والمتسوّلين. وتم منع اليهود من مزاولة بعض المهن، وفُتِحَ الباب أمامهم للعمل في المجالات الممنوعة على المسيحيين كالربا. وأفضى هذا كله بدوره إلى إضعاف الجماعات اليهودية وجَعلها أكثر انعزالا. ومع الوقت، صارت الكراهية العنيفة ضد اليهود جُزءًا من الحياة اليومية بالمجتمعات المسيحية الأوروبية. ولمّا صارت لبعض اليهود مكانة بارزة في عالم المال والصيرفة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بدأت سياسة طردهم من الدول الأوروبية، وأُرسل اليهود إلى محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال. وكان كثيرون من المطرودين من أوروبا يعيشون في أماكن ريفية أو يهاجرون إلى المجتمعات المسلمة في الشرق. ولم تنته مشاعر الكراهية حتى مع بدء عصر الإصلاح في أوروبا في القرن السادس عشر، فقد كانت للإصلاحي الألماني مارتن لوثر (1483 – 1546)، خطابات تَحضّ على كراهية اليهود وحرق معابدهم.

ثالثا: يهود اليوم ليسوا جميعا ساميين. نعم هناك من ادّعى أن اليهود يشكلون عرقًا واحدًا، ومن هؤلاء يهود وغير يهود، إلا أن علم الأجناس لم يُثبت ذلك أبدا، وكتب الكثيرون، ومنهم يهود، بحوثا أثبتت عدم صحة نقاء العرق أو الدم اليهودي. كما لم يثبته التاريخ، فالعبرانيون القدامى اختلطوا مع الأقوام الأخرى، وانتشر الزواج المختلط بينهم، وتحوّل أقوام أخرى لليهودية. ومن جهة ثانية، وبرغم عدم وجود إحصاءات دقيقة عن عدد معتنقي اليهودية قديما وحديثا، إلا أن معظم يهود العالم جاؤوا من أوروبا وتحديدا من بولندا، وهؤلاء يتحدرون من يهود الخَزَر وهم قبائل تحوّلوا إلى اليهودية في القرن الثامن الميلادي، ثم انتشروا في بولندا وهنغاريا في القرن العاشر. قبائل الخزر هذه تركمانية، أي غير سامية، ومنها تتحدر الأغلبية العظمى من يهود اليوم. وأخيرا، استخدام كلمة السامية لوصف كراهية اليهود في أوروبا غير صحيح لسبب آخر وجود شعوب سامية أخرى غير العبرانيين القدماء، مثل العرب والكنعانيين والبابليين والفينيقيين والمؤابيين والأدوميين والعموريين وغيرهم.

رابعا: التعميم الجغرافي لكراهية اليهود أمر غير صحيح، فقد كانت هناك جماعات يهودية أخرى لم تتعرّض للاضطهاد في قارّات العالم، ومنها التي عاشت في العالم الإسلامي. فخلافا لأوروبا منذ العصر الوسيط، لم تُمارس ضد يهود المجتمعات المسلمة عمليات تمييز ممنهجة، وشكّلوا جزءًا من نسيج هذه المجتمعات ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. وكان لهم استقلالهم الذاتي في إدارة شؤونهم الدينية والأحوال الشخصية والتعليمية، وتمتعوا بحرية العقيدة والفكر وظهرت بينهم رموز ثقافية وفنية وسياسية عديدة. وظل الأمر هكذا حتى ظهور الصهيونية، ثم قيام دولة الاحتلال.

خامسا: وظّفت الحركة الصهيونية في السابق ما سمتها “اللاسامية” أسوأ توظيف لتحقيق أهدافها في احتلال فلسطين، وأيضا لابتزاز القوى الغربية من أجل استمرار دعمها لدولة الاحتلال، واستمرّت دولة الاحتلال في الطريق نفسه. بدأ هذا التوظيف في أوروبا في القرن التاسع عشر بأسانيد تتلاءم مع روح العصر ومبادئه، وفي مقدمها مبدأ القوميات والمشروع الاستعماري. ادّعت الصهيونية أن “العداء لليهود” يتخذ أبعادًا ثلاثة كما كتب الكثيرون: التاريخي: العداء وُجد منذ وُجد اليهود. وهنا يُذكر السبي البابلي، فالشتات الروماني في العصر القديم، وحياة الغيتو واضطهاد المجتمعات الأوروبية لليهود في العصور الوسطى، ثم أضيف اضطهاد النازي في القرن العشرين. الجغرافي: أي العداء يشمل اليهود في كل أنحاء العالم. الكيفي: أن ما وقع على اليهود لا يعادله أي اضطهاد وقع على سواهم في أي زمان ومكان. … وصارت هذه المضامين المختلقة تشكل ما سُميت “المسألة اليهودية”. ولا يخفى زيف هذه الأسانيد كما أوضحنا. كان هدف الصهيونية من توظيف “العداء للسامية” و”المسألة اليهودية” تبرير الطرح الاستعماري الذي طالبت به حلّا وحيدا للمسألة اليهودية وظاهرة اللاسامية معا، وهو أن يكون لليهود وطن خاص بهم استنادًا إلى فكرة القوميات، وبالتحالف مع المشروع الاستعماري الغربي.

خلاصة القول، توظيف “اللاسامية” بمغالطاتها تلك جزء من الأساطير التي برّرت المشروع الصهيوني الاستعماري لعدة أسباب، أهمها: أولا تنفيذ المشروع عبر تصدير يهود الأقليات الأوروبية في أوروبا إلى فلسطين ليستوطنوا هناك. ثانيا، تم إفراغ فلسطين من سكانها الأصليين بالقوة المسلحة، لأنها لم تكن أرضًا فارغة كما روّجت الصهيونية. ثالثا، لم يكن من الممكن أن ينجح هذا المشروع من دون الحصول على دعم مالي وسياسي من القوى الكبرى. رابعا، وفي مقابل هذا الدعم، يقوم الوطن القومي المنشود لليهود بدور وظيفي لصالح القوى الكبرى في منطقة حيوية عازلة بين مشرق العالم العربي ومغربه.

إنّه حلٌ استعماريٌّ جاء على حساب الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وكشْف أبعاد هذا الحل ونقْد ممارسات دولة الاحتلال لا علاقة له بالسياقات التي نشأت فيه ظاهرة معاداة اليهود في أوروبا منذ العصر الوسيط.

مقالات ذات صلة