الدين والسياسة بعد الربيع العربي… إبراهيم غرايبة

قدمت محاضرة عبر الشبكة لطلبة ماجستير الدراسات الدينية في جامعة غرناطة الإسبانية بعنوان “الدين والسياسة بعد الربيع العربي”، وقد أثار الموضوع أفكارا كثيرة تحتاج إلى معالجة جديدة مختلفة عما تعودنا عليه، لقد أمضيت وقتا طويلا أقرأ في تاريخ الدين وتجربة الدين والسياسة في أوروبا، ويمكن ملاحظة مكتبة هائلة ومتراكمة من دراسة الدين في سياق التاريخ والفلسفة والاجتماع والانثروبولوجيا، بل وأيضا في علم الأحياء (البيولوجيا)، وربما لا يكاد المثقف يجد كتابا عربيا واحدا رغم الحضور الكبير والمهيمن للظواهر والحالات الدينية!

تنتمي حالة الدين والسياسة في الدولة العربية الحديثة إلى الصياغات والتسويات السياسية والاجتماعية التي أجريت منذ القرن التاسع عشر، وهي ترث حالة سابقة كانت فيها جزءا من الاحتلال وقبل ذلك ولفترة طويلة جدا كانت جزءا من إمبراطورية إسلامية واسعة وراسخة. وقد تشكل الخطاب الديني في الدول العربية الحديثة مستمدا من مركزية الدولة ودورها التنموي والتعليمي والثقافي، وفي ذلك فقد كان الشأن الديني من اختصاص السلطة التنفيذية التي تولت التعليم الديني في المدارس والجامعات وإدارة وتنظيم الشؤون الدينية والأوقاف والمساجد والإفتاء والأحوال الشخصية، وصار الشأن الديني للمرة الأولى في التاريخ العربي والإسلامي مؤسسات وبرامج حكومية، ولم يعد المسجد الأموي في دمشق جامعة إسلامية إقليمية كما كان شأن الأزهر والزيتونة والقرويين، لكن بقي يعمل إلى جانب المؤسسات الرسمية جماعات دينية متعددة شغلت بالدعوة والعلم أو التربية والتهذيب كما السياسة والمعارضة والاحتجاج.

يعكس الربيع العربي وما صحبه من تحولات ومشاهد جديدة تشكلت أو آخذة بالتشكل سواء في العلاقة بين الدين والسياسة أو السياسة والأسواق والمجتمعات على نحو عام التحولات التي يمر بها العالم والمستمدة من الشبكية والعولمة وما أنتجته من علاقات جديدة في العمل والإنتاج والتأثير، وكان من أولى وأهم ضحايا هذه التحولات، مركزية الدولة التي لم تعد قائمة، ولم يعد قائما دورها التاريخي في الدين والثقافة والإعلام والتوجيه والإرشاد، كما انسحبت أيضا من كثير من الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والاتصالات والتموين والنقل،.. لكن الخطاب الديني ما يزال خطاب الدولة المركزية المهيمنة، ويعتمد على أدواتها ومؤسساتها التي تغيرت كثيراً وفقدت قدراتها وسلطاتها التي كانت قائمة قبل الشبكية والمعلوماتية، وبعضها تبخر ولم يعد موجوداً، فينشئ الناس اليوم تدينهم وثقافتهم ومواقفهم الدينية اعتماداً على مصادر مستقلة عن الدول والمجتمعات تقع خارج سلطتها وسيادتها.

وفي مرحلة التدفق الهائل في المعلومات والقدرة على تداولها والمشاركة فيها، لم يعد ثمة مجال لخطاب يستند إلى سلطة دينية رسمية أو مجتمعية، ولم تعد ثمة إمكانية لاحتكار معرفة وتفسير وفهم “الحق الذي نزل من السماء”، لم يعد هذا الحق يحتكره أحد، ولم تعد القداسة التي منحت للتاريخ والتراث والتجارب الدينية قائمة رغم كل ما يردّ به على هذه المقولة من حالة الفائض الديني التي تغمر المجتمعات والأفراد والدول على نحو غير مسبوق.

وفي عجز الخطاب الديني عن مواجهة العنف والكراهية الكاسحة اليوم، إن لم يكن مسؤولاً عنها، أو إن لم تكن تعكس أزمته، لم يعد ثمة خيار سوى إعادة النظر في الخطاب نفسه وفي موقعه في الدولة والمجتمع وحدوده وجدواه. فقد أظهرت تطورات الحالة الدينية وتداعياتها أنها ليست فكراً معزولاً، ولكنها خطاب شامل يهيمن على الدولة والمجتمعات والثقافة والفكر والمناهج التعليمية في المدارس والجامعات، وأن التطرف يستمد في واقع الحال وجوده وتأثيره من خطاب ديني عام سائد ومهيمن في مؤسسات الدولة ومن ثقافة كاسحة في المجتمع والمؤسسات التعليمية والدينية. ولم يعد كافياً أن تحظر الجماعات المتطرفة والإرهابية وتلاحقها بما أن مصادر فكر التطرف والكراهية راسخة وممكّن لها في الشأن الديني العام والرسمي والتعليم والثقافة السائدة، وستظل احتمالات الكراهية والعنف والتطرف قائمة ومحتملة يمارسها أشخاص لا علاقة لهم بالجماعات المتطرفة والإرهابية؛ إذ يغلب اليوم على المتطرفين، أنهم اكتسبوا حالتهم من دون علاقة تنظيمية بالجماعات المتطرفة، بل إن الحكومات والمجتمعات اليوم تجد نفسها في مواجهة نوع من التطرف والإرهاب أشد خطراً وخفاء من إرهاب وتطرف الجماعات المنظمة، لأنها حالات يصعب توقعها أو معرفتها قبل وقوعها.

مقالات ذات صلة