رواية حماس

علي أنوزلا

حرير- أخيرا أصدرت حركة حماس روايتها الخاصة عن هجوم 7 أكتوبر، وهي رواية لطالما انتظرها كثيرون من أنصار الشعب الفلسطيني عموما، ليس لأنهم كانوا في حاجة إلى التأكّد من صواب أهداف الحركة ودوافعها إلى تفجير واحدةٍ من أعظم المعارك ضد المحتل الصهيوني منذ قيام دولته الغاصبة، وإنما لرواية الأحداث من صانعيها الحقيقيين، فطوال مائة يوم وسبعة أيام بعد الهجوم غير المسبوق على إسرائيل، ظلت رواية الحركة غائبة أو مغيّبة عن قصد من عدة أطراف كانت تروّج الرواية الصهيونية، أو تتبنّاها من دون فحص أو تمحيص، كما وسائل إعلام غربية عديدة تردد الدعاية الصهيونية حقيقة مطلقة.

طبعاً، لا يعني أن إصدار “حماس” روايتها، وإنْ متأخّرة كثيرا، سيقلب موازين حرب السرديات، ولكنه سيجعل صاحب كل ضمير يستمع إلى وجهة النظر الأخرى، بما لها وما عليها، وقد حملت رواية “حماس” بين طياتها نقدا ذاتيا شجاعا، واعترافا، نادراً ما أقرّت به كثير من حركات التحرير، عندما قالت إنها “ربما حدثت أخطاء أثناء تنفيذ العملية، بسبب الانهيار المفاجئ للأجهزة الأمنية والعسكرية على طول الحدود بين إسرائيل وقطاع غزّة”، وفي هذا إشارة إلى عمليات القتل والاحتجاز التي طاولت مدنيين من المستوطنين الإسرائيليين من ضمنهم أطفال ونساء. والحقيقة، ليست هذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها “حماس” بوقوع انفلات أمني في أثناء تنفيذ هجومها التاريخي على الكيان المغتصب، فقد سبق للشهيد صالح العاروري، أياماً قليلة بعد 7 أكتوبر، أن أشار، في حوار هاتفي مع قناة الجزيرة، إلى وقوع انفلات أمني على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، عندما لجأ الجيش إلى تفعيل “بروتوكول هنبعل” وارتكب مجازر في حقّ مواطنيه، أو عندما أحدثت تلك الأحداث حالة من الفوضى في الجانب الفلسطيني، وأدت إلى عبور مواطنين ومسلحين السياج الفاصل وارتكاب أفعالٍ من قبيل من رأيناه على شاشات التلفزيون في ذلك اليوم الصعب. وما عدا هذا التصريح لم تصدُر عن الحركة أو قياداتها توضيحاتٌ أكثر عما حصل، خصوصا بعد تواتر روايات كاذبة كانت تروّجها الدعاية الصهيونية، وبنت عليها خطابَها لكسب جزءٍ كبير من الرأي العام الغربي في بداية الأحداث، بتصوير الحركة ومقاتليها أشخاصاً بدون رحمة اغتصبوا النساء وقتلوا الأطفال وجزّوا رؤوسهم بل وحرقوهم داخل أفران الطهي! ثم اتضح أن كثيرا من هذه الادّعاءات قد سقطت وكذّبتها وسائل إعلام إسرائيلية ومسؤولون إسرائيليون، وفشلت كل التحقيقات التي باشرتها الأجهزة الإسرائيلية في إيجاد دليل واحد يثبت صحة ادّعاءاتها. وكان يجب انتظار صدور هذه الرواية لتكشف “حماس” عن “بروتوكول” مقاتليها، وهو الضوابط والقواعد الشرعية التي تحثّ المقاتل على “تجنبت إلحاق الأذى بالمدنيين، وخاصة الأطفال والنساء وكبار السن”، فهذا “واجب ديني وأخلاقي على مقاتلي كتائب القسام”.

أهمية رواية حماس أنها لا تتوجه إلى أنصار الحركة ومؤيدي الشعب الفلسطيني، وهم كثر، خصوصا بعد التطور المأساوي للحرب الإجرامية على غزّة، والتي فضحت الوجه البشع للإجرام الإسرائيلي وحجم النفاق والتواطؤ الغربي والعربي، خصوصا الرسمي، وإنما تكتسب قوتها من أنها وثيقة تاريخية وشهادة صادقة عن حدثٍ كبير سيكون له ما بعده وما قبله. وأهمية هذه الوثيقة أنها تؤكّد ما كان محللون كثيرون مناصرون للقضية الفلسطينية يردّدونه في وجه الدعاية الإسرائيلية وأذرعها الإعلامية الغربية، ولعل أهمّها تلك الرواية أن هجوم 7 أكتوبر ليس بداية الأحداث وإنما نتيجتها، كون القضية الفلسطينية لم تبدأ مع هذا الحدث البارز في تاريخ نضالها الطويل، فهو كما تقول الوثيقة كان “خطوة ضرورية” و”ردّا طبيعيا” على “جميع المؤامرات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني” منذ أكثر من 75 عاما من احتلال إسرائيلي غاصب وإجرامي وعنصري.

الحقيقة الثانية التي تبرزها الوثيقة أن “حماس” حركة مقاومة وطنية مشروعة الأهداف تستمدّ شرعيتها في مقاومة الاحتلال، مثل جميع حركات المقاومة التي عرفها العالم، تناضل من أجل حق شعبها المشروع في الحرية والاستقلال وتقرير مصيره بنفسه، باستعمال جميع وسائل المقاومة، بما فيها الكفاح المسلح حقّا مشروعا كفلته الشرائع والأديان، وأقرّته القوانين الدولية. وفي هذه النقطة، ردّ على كل الاتهامات السياسية التي تروّجها إسرائيل والولايات المتحدة وأنظمة غربية تتهم “حماس” بالإرهاب، وتسارع إلى وضع قادتها المقاومين على لوائحها السوداء، وتشبيهها بتنظيم داعش وغيره من الحركات الإرهابية المشبوهة.

الأمر الآخر المهم الذي تؤكّد عليه الوثيقة رفضها كل أنواع الوصاية على الشعب الفلسطيني الذي أثبت بصموده وبسالة مقاومته أنه سيّد قراره، ومن حقه، مثل جميع شعوب العالم الحرّة، أن يقرّر مصيره بنفسه، بعيداً عن كل الشروط والإملاءات المُجحفة، ورفضاً لكل أنواع الوصاية والتواطؤ والخيانة، وبكلمات الوثيقة “لا أحد في العالم” له الحقّ في اتخاذ القرار نيابةً عن الشعب الفلسطيني الذي يعلّمنا يومياً دروساً كبيرة في المقاومة والصمود.

وتبقى أهمية وثيقة “حماس” أنها أكثر رواية متماسكة مضادّة خرجت من تحت الأنقاض والرّكام الهائل الذي خلفته الآلة الجهنمية الإسرائيلية، لتوقظ سذّجا كثيرين انطلت عليهم الدعاية الصهيونية السوداء، وفي الوقت نفسه، لتقول لمن يقف خلف هذه الدعاية ويروّجها ويتبناها ويدافع عنها إن حبل الكذب قصير، وإن الحقيقة هي التي ستنتصر في النهاية، فقضية الشعب الفلسطيني هي قضية شعبٍ محتلّ منذ أكثر من مائة عام، وهو آخر شعبٍ ما زال يعاني من الاحتلال، ويواجه واحداً من أبشع أنواع الاستعمار الإجرامي والعنصري، وقد آن الأوان للاعتراف بحقّه الطبيعي والشرعي في التحرّر وتقرير مصيره بنفسه.

مقالات ذات صلة