إسرائيل… إرهاب الدولة وإرهاب المتديّنين

أحمد الجندي

حرير- هل يمكن أن ينكر أحدٌ أن إسرائيل، ذلك الكيان الإرهابي، قامت على أساس ديني؟ فما معنى أن تُعطى الجنسية لأي يهودي في العالم يرغب في “العودة” إلى إسرائيل، ويعطى معها بيتا مسلوبا في أرضٍ مغصوبة، وما معنى قانون أساسي يقضي بيهودية الدولة؟! أفرزت هذه النشأة الدينية، وبشكل طبيعي، جماعاتٍ وتنظيماتٍ دينية متطرّفة، تعمل داخل الدولة التي بقيت من دون نصّ دستوري يحدّد إن كانت علمانية أم دينية، لكن كل قادتها، منذ اليوم الأول في نشأتها، تعاملوا معها أنها دولة علمانية، تحكمُها حكوماتٌ مدنيةٌ تستعمل الدين حسب حاجتها.

إذا عدنا إلى سلوك العصابات الصهيونية قبل 1948، وراقبنا سلوك الدولة فيما بعد، وقارنّاه بسلوك الجماعات الدينية اليهودية المتطرّفة، لن نجد مقارنةُ تُذكر؛ إذ يتفوّق إجرام العصابات والدولة العلمانية على الإرهاب المرتكَب باسم الدين هناك. وبينما يمكن رصد جرائم، وأعداد ضحايا الإرهاب اليهودي المرتكب باسم الدين، يصعُب حصر الآخر وضحاياه.

صدر في إسرائيل، في إبريل/ نيسان الماضي، كتاب عنوانه “وأنتقم، قصة الإرهاب اليهودي” للصحافي الإسرائيلي، روعي شارون، يركّز على أعمال العنف والإرهاب، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، أي مع بدء عملية السلام مع الفلسطينيين، والتي ارتكبها يهود إسرائيليون على خلفية أهداف دينية تحديداً. صاغ شارون عنوان مؤلّفه الرئيس “وأنتقم”، في شكله العبري، صياغة توراتية مأخوذة من سفر القضاة 16: 28 “وأنتقم، نقمة واحدة…” ليرصد فيه كل الأعمال الإرهابية لأشخاصٍ وعصاباتٍ ينتمون لليمين الديني المتطرّف، ودعاة أرض إسرائيل الكاملة، وأغلبهم من متطرّفي التيار الديني القومي، أو أصحاب أيديولوجيات دينية متطرّفة أخرى، بدءاً من “الخلية اليهودية” التي تأسّست على يد شباب من التيار المركزي للصهيونية الدينية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، مروراً بباروخ غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي (1994)، وخلية “بات عاين” التي خطّطت لتفجير مدرسةٍ فلسطينيةٍ متوسّطةٍ للبنات في شرق القدس (2002)، وصولاً إلى حرق عائلة دوابشة (2015)… وارتكابات أخرى كثيرة.

تتنوّع دوافع الإرهاب الديني اليهودي التي حدّدها شارون بين منع القيادة الإسرائيلية من التنازل عن الأرض للفلسطينيين على وقع أي اتفاق سياسي، أو دافع تقريب النهاية وتعجيل قدوم المسيح المخلص واستعجال بناء الهيكل الثالث عبر استخدام القوّة الذي عبّر عنه بعض مفكّري الصهيونية، مثل أبا أحي مائير (1897 – 1962)، وأوري تسفي غرينبرغ (1896 – 1981)، وشبتاي بن دوف (1934 – 1978)، أو بدافع الانتقام المؤصل بنصوصٍ توراتيةٍ وتلمودية، من نوعية “يفرح الصدّيق إذا رأى النقمة”، و”ليصنعوا نقمة في الأمم”، أو قول شمشون “اذكرني وشدّدني… فأنتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين”، الذي أصبح ترنيمةً أخذت قوّة القانون لدى اليمين الديني المتشدّد في إسرائيل، وتحوّل على يد الموسيقي دوف شورين إلى أغنية “لعسوت نقاما بجوييم/ لننتقم من الأمم” والتي أصبحت على مرّ السنين أغنية حماسية يتغنّى بها شباب الحركات الدينية في الأعراس، وهم يلوّحون بالسكاكين، والبنادق والمسدّسات… حتى إنهم كانوا، في أحد الأعراس، يطعنون بالسكاكين صورة الطفل الرضيع علي دوابشة، الذي مات حرقاً مع والديه على يد متطرّفين يهود، وهم يضحكون ويصرخون في سعادة.

يتحدّث الفيلسوف البريطاني، توماس هوبز، عن ثلاثة أسبابٍ تُفضي إلى الحروب؛ الجشع والرغبة في ما لدى الغير، والخوف وتوقّع العدوان، والبحث عن الهيبة وإثبات التفوّق على الآخرين. وعلى الرغم من أن هذه الأسباب أقرب إلى فهم أسباب إرهاب الدولة الإسرائيلية التي قامت على أساس استيلاءٍ على أرضٍ انتقلت وكأنها هدية، من احتلالٍ بريطانيٍّ إلى إرهابٍ أكثر إجراماً، يحركه خوف ورعب لا ينتهيان في بيئةٍ رافضةٍ وكارهةٍ له، وشعور مؤسّسيه وقادته طوال الوقت بالانتماء إلى عالم الرجل الأبيض الأكثر تحضّراً وإنسانية وبشرية، فإنها، أي هذه الأسباب، حتى لو أضفنا لها دافع الانتقام عند الجماعات الدينية اليهودية، لا تكفي لتفسير هذا العنف الشنيع المتجذّر لديهم في التاريخ الإسرائيلي القديم، والذي تطوّر إلى صورة أكثر بشاعة في العصر الحديث.

يعجز القلم عن إيجاد مبرّراتٍ لإرهاب العصابات الصهيونية والدولة الإسرائيلية؛ فطوال الحروب العربية ضد العصابات الصهيونية ثم دولة الاحتلال في 1948 و1956 و1967، وفي اعتداءاتها المتكرّرة على جنوب لبنان، وقطاع غزّة، تطرح أسئلة من قبيل: ما الذي يدفع الصهاينة والإسرائيليين إلى قتل الأسرى ودفنهم أحياء، وإفراغ ذخائرهم في رؤوس الأسرى، والمراهنة على أجناس الأجنّة في بطون الأمهات وبقر بطونهن؟ وما الذي يدفع إلى قصف مدارس أطفال في بحر البقر في مصر، وفي أخرى في رأس الفاخورة تابعة لوكالة غوث اللاجئين (أونروا) في غزّة، أو قصف مراكز تابعة للأمم المتحدة يحتمي بها مئات النساء والأطفال والشيوخ (مجزرة قانا)؟ وما هذه النفسية التي تسمح بقتل الأسرى تحت جنازير الدبابات؟

مجازر كثيرة ارتكبتها عصابات صهيونية غير دينية من اليسار واليمين قبل 1948 والدولة العلمانية بعد النكبة؛ في حيفا والقدس وبلد الشيخ والعبّاسية وباب العمود ويافا، وفي شاطئ دور، ودير ياسين والحسينية شمال صفد، وعين الزيتون، وقرية أبو شوشة، وبيت دارس واللد، والرملة، وبحر البقر، وصبرا وشاتيلا، وقانا، وفي غزّة في 2008، 2012، 2014، 2021، وهي مجرّد أمثلة لجرائم إنسانية خلّفت عشرات الآلاف من الأبرياء، وتكشف عن تاريخ من الإرهاب الحقيقي، والقتل الجماعي الذي يحدُث للمتعة في أحيانٍ كثيرة.

نحن أمام طبيعة معقّدة، لكيانٍ يعاني من كل أنواع الخلل النفسي، ولا مجال هنا للمقارنة بين إرهاب جماعات دينية يهودية ضد الفلسطينيين وإرهاب ترتكبه الدولة… ومع ذلك، بينما يتحفّظ بعض الإسرائيليين على الإرهاب المرتكب باسم الدين اليهودي، يؤيد الجميع هناك إرهاب الدولة. ولا وزن هنا لبعض الأصوات الإسرائيلية الداخلية التي تتحفّظ أحياناً على إرهاب الدولة، مثل “حركة السلام الآن” التي لا يتخطّى أعضاؤها بضعة أفراد، وأنشطتها بضعة بيانات، ومن دون تأثير حقيقي داخلي.

انتقاد بعض اليهود الإرهاب والجرائم المرتكبة باسم الدين اليهودي شرعنة مبطّنة للإرهاب المرتكب باسم الدولة، وهو انتقاد يعتمد على أنه يرتكب خارج إطار القانون الإسرائيلي، وحتى هنا لا مانع من التماس العذر لمرتكبيه؛ فباروخ غولدشتاين، حسب قول علمانيين يهود، بطل ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي “بعد عشرات حوادث إطلاق النار التي قتلت فيها أعداد من اليهود، واستدعي فيها، بوصفه طبيباً، لمحاولة إنقاذ بعضهم”. أما إرهاب الدولة فيرتكبه قادة يرتدون البزّات، ويستقبلهم القادة والرؤساء، ويسيرون على البساط الأحمر، ولا مانع من أن يخطبوا عن الحرية والديمقراطية والإنسانية وأيديهم ملطخة طوال الوقت بالدماء.

وعلى وقع الصدمة المروّعة، والهزيمة القاسية، والكارثة التي تعرضت لها إسرائيل في عملية طوفان الأقصى، كشفت أحداث الأيام الأخيرة عن دولة يرى قادتها أنهم الأحقّ بالحياة مقارنة بشعوبٍ لا تزيد عن كونها مجرّد “حيوانات بشرية” لا تستحقّ فُتات الخبز، ولا قطرات الماء، ولا الدواء، ولا تستحقّ حتى، حسب تصريحات قياداتهم العسكرية، أن يعيشوا بين الجدران. كان على الفلسطينيين إذا ألا يفكّروا في التحرّر، فالرغبة في التحرّر إرهاب، وكان على المصريين قبلهم ألا يحاربوا لتحرير سيناء، فحرب أكتوبر أيضاً بهذا المعنى، كانت إرهاباً، وعلى السوريين ألّا يفكّروا في تحرير الجولان خوفاً من التهمة نفسها… وهكذا، على كل المظلومين القبول بظلمهم واحتلال بلادهم وسرقة ثرواتها في ظلّ مصطلح فضفاض فقد معناه، لم يعد يستخدمه إلا الأقوياء.

يعرف الإرهاب لدى الأكاديميين الإسرائيليين، ولا داعي لاستدعاء تعريفاتٍ لحقوقيين أو منظمات إنسانية دولية، بأنه “استخدام العنف الشديد ضد مدنيين غير محاربين من أجل تخويف جمهور واسع” أو أنه “استخدام العنف، أو تهديد به ضد مدنيين أو أهداف مدنية لتحقيق غايات سياسية” وإذا أضيف لهذه التعريفات مئات المجازر، وعشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء، سوف يتأكّد أي إنسان موضوعي أن المقاومة حقّ، وأن إسرائيل كيانٌ إرهابيٌّ بامتياز.

مقالات ذات صلة