هذا عدوّ بايدن… ليس روسيا ولا الصين

محمود الريماوي

حرير- حملت الحرب على غزّة مفاجأة مدوّية، فمع المشاركة الأميركية لحكومة نتنياهو وبن غفير في شنّها، بالدعم التسليحي والمالي والسياسي والبدبلوماسي والإعلامي، تبدّى أن البيت الأبيض قد حدّد عدوّه الاستراتيجي في هذه المرحلة. لم تعد روسيا هي العدو أو في حكم العدو، فالدعم الأميركي لأوكرانيا يتناقص، والضغوط الغربية الخفيّة على كييف بدأت لدفعها إلى مفاوضات “مؤلمة”، وهو ما ردّ عليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتوجيه إيماءات صداقةٍ وتعاون إلى الغرب، فيما يتخبّط الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنيسكي، بين سعادته بالحرب على غزّة وصدمته بانعاكاسات سلبية لها على التصدّي للغزو العسكري على بلاده. وتنسب لهذا الرجل عبارة تفوه بها، في الأسبوع الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول: “حين تكون الحرب ضد الإرهاب فإنه لا قواعد حينئذ”، وهي عبارة تافهة، يتم فيها قلب المنطق العسكري والأخلاقي السليم الذي يقضي بأنه حيثما لا تكون هناك قواعد في الحرب فثمّة أداء إرهابي.

والصين بدورها لا تبدو في منزلة العدو، فقد التقى الرئيس بايدن بنظيره الصيني شي جين بينغ منتصف الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) في كاليفورنيا، في أجواء ودّية، ولم يتطرّقا، في تصريحاتهما العلنية إلى تلك الحرب في غزّة المعزولة عن العالم، وجرى تبريد مسألة تايوان في هذه الآونة، والخلافات الصينية الأميركية حول كل شيء آخر تحت السيطرة.

من هو العدو إذن؟ تنبئ الزيارات المتتابعة التي أدّاها كل من وزير الدفاع لويد أوستن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي لم يكتم أنه يؤدّي زيارته الأولى تل أبيب (بعد الحرب) بصفته يهودياً أيضا، وذلك بعد الزيارة الافتتاحية العاطفية التي أجراها الرئيس جو بايدن، وحملت دعماً لقرار الحرب، مع إسداء النصح بعدم ارتكاب أخطاء وعدم الاستسلام للغضب، تنبئ هذه التحرّكات المتتابعة بأن حرب نتنياهو ومجلس حربه هي أيضا حرب البيت الأبيض وأركان الإدارة. وقد تعزّز ذلك برفض قراريْن للجمعية العامة للأمم المتحدة يدعوان إلى وقف إطلاق النار، وجرى إفشال مشاريع قرارات أخرى في مجلس الأمن بالاتجاه ذاته. ولا يكف مسؤولون وناطقون رسميون في واشنطن عن القول إن وقف الحرب تستفيد منه حركة حماس، ولذلك يتعين استمرارها حتى القضاء نهائيا على هذه الحركة (باستثناء هدنات إنسانية لضمان إطلاق الأسرى الإسرائيليين).

على أن أناسا بلا عدد في عالمنا، بمن فيهم خبراء وسياسيون وعسكريون، باتوا يدركون، منذ الأيام الأولى لحرب نتنياهو، أنها لا تعدو أن تكون حرباً سافرة ضد المدنيين وضد الحياة المدنية في قطاع غزّة، وذلك يتفق مع الرؤية الصهيونية أن الكتلة البشرية الفلسطينية بمجملها تستحقّ استهدافها بصورة دائمة. وقد تبين أن الفئات الضعيفة من المدنيين هي العدو المفضل لدى نتنياهو ووزير حربه، يوآف غالانت، إذ إن 70% من الضحايا هم من الأطفال والنساء، وبعدد يناهز 14 ألف حياة لهؤلاء قد أزهقت. هذه الحصيلة التي بدأت تظهر ملامحها منذ الأيام الأولى للقصف الجوي لم تؤرّق واشنطن، فقد بدا القصف المتواصل ليلا ونهارا على البيوت والمجمعات السكنية من الخسائر الجانبية لهذه الحرب. فيما شدّد المنسق الأممي لعملية السلام في الشرق الأوسط، تور وينسلاند في جلسة لمجلس الأمن، على أن ارتفاع عدد القتلى المدنيين في غزّة “أمر غير مسبوق في التاريخ”. وبالانتقال إلى استهداف المستشفيات، ارتبكت إدارة بايدن ابتداء إزاء ما جرى حيال مستشفى المعمداني، لكنها لم تلبث أن تماسكت إزاء استهداف كل المستشفيات، إذ أيدت، من دون ذرّة حياء، قصف كل المراكز الصحية وسيارات الإسعاف، والتنكيل بالمرضى والجرحى، باعتبار تلك المراكز تخدم “حماس”.

قبل ذلك، لم تعترض واشنطن على قطع الماء والكهرباء والوقود عن القطاع، وهي وصفة نموذجية لإبادة جماعية، ولتطهير عرقي. لم يهتزّ البيت الأبيض أمام الإجراءات التي تمتنع عنها عصابات الإرهاب، لكن تل أبيب نفذتها، وقد قوبلت نداءات أمين عام الأمم المتحدة وبابا الفاتيكان بازدراء، ومثلها تقارير منظّمتي الصحة العالمية ويونسيف ومفوضيتي اللاجئين وحقوق الإنسان، ومنظمات أطباء بلا حدود وأوكسفام والعمل ضد الجوع، وهيومن رايتس ووتش وأمنيستي الدولية. كل نداءات الهيئات الدولية تُقابل بآذان صمّاء ومشاعر متبلّدة وباستخفاف تام، ذلك أن حرب نتنياهو مقدّسة، وبايدن بصفته صهيونيا، كما يعرّف نفسه، يبارك هذه الحرب الصهيونية، وليذهب العالم غير الصهيوني ولتذهب الأمم المتحدة والفاتيكان إلى الجحيم. وقبل سنة من الانتخابات، فإن عين الرجل على اللوبي الصهيوني في بلاده، وعلى المسيحيين المتصهينين، وليست على قاعدته في الحزب الديمقراطي، وعلى الأجيال الأميركية الشابة التي تنشد العدالة في كل مكان.

وبينما باتت المذابح برنامجا يوميا، فإن الصحافيين ممنوعون من الدخول إلى القطاع إلا بشرط الاطلاع على أشرطتهم والموافقة عليها من جيش الاحتلال، وهو ما يرفضونه (نجحت كلاريسا وارد مراسلة سي إن إن بالدخول ساعات من معبر رفح مع فريق طبي)، أما الصحافيون الفلسطينيون فهم بمنزلة الأعداء مرّتين. مرّة لأنهم رسل الحقيقة وأخرى لأنهم فلسطينيون، ولذلك جرى استهداف نحو 90 صحافيا شاباً حتى تاريخه، إضافة إلى اعتقال 46 منهم. الصحافة الحرّة مطلوبة في كل مكان، باستثناء قطاع غزّة، والقيم الأميركية يجب أن تعمل في أميركا وليس في غزّة. وإذ تتزايد أعداد الضحايا يومياً وبالمئات، وأمام الأصداء الساخطة لهذه المذابح، فقد قرّر بايدن اعتماد عبارات “يجب حماية المدنيين” و”يجب تقليل عدد الموتى المدنيين”. لكنه لا يدين أبداً جرائم القتل الجماعي اليومي للمدنيين، ولا يحمّل نتنياهو وقادة جيشه أية مسؤولية قانونية أو أخلاقية، إنما من أجل تسجيل مواقف للتاريخ ولغايات أرشيفية، ومن أجل ذرّ الرماد في العيون، فإنه يرى من المفيد ترديد عبارات: يجب حماية المدنيين، ينبغي احترام القانون الدولي. وإذا تواصل القتل وقصف البيوت على رؤوس ساكنيها كما يحدُث بغير انقطاع، فلا مشكلة.. فقد قال الرئيس كلمته للتاريخ. بهذا، فقد تم استخدام شعار “الحرب على حماس” قناعاً للإبادة الجماعية وذريعة لتهديم قطاع غزّة، وغطاءً لإرهاب الدولة الإسرائيلية، بمباركة واشنطن ودعم كامل منها.

وإذ تجري شيطنة “حماس”، لأنها استهدفت عسكريين واختطفت مدنيين إسرائيليين، فإن وظيفة نتنياهو، ومن قبله نفتالي بنيت، تكاد تقتصر على قتل الفلسطينيين المدنيين أولاً، والمسلحين ثانيا. ولو كان المعيار الذي يجري فيه تجريم “حماس” صحيحا، لوجب تفكيك الحكومة الإسرائيلية وإدانة رئيسها وأعضائها ومناصبتها العداء وسوق أعضائها إلى العدالة، فقد قتل هؤلاء أعدادا مضاعفة من الضحايا الفلسطينيين. لقد نشأت إسرائيل بقوة الإرهاب، وإلى جانب المذابح المتقطّعة منذ العام 1948، فإن خريف هذا العام يشهد مجازر يومية على أيدي حكامها، لأن شعب فلسطين هو العدو لدى هذه الحكومة، وبايدن يؤيدها، لأنه يؤيد أهدافها، ويدعم مجراها ويرفض وقف الحرب. إنه لا يفكّر بالصين ولا بروسيا إلا حين يجد متسعاً من الوقت، فثمّة عدوُّ على أحد سواحل شرق المتوسط، يتعين الإجهاز عليه، يضمّ في قطاع غزّة مليونين وربع مليون شخص، منهم بضعة آلاف مسلحون. إنه عدوٌّ لا يملك أسلحة دمار شامل، ولا حلفاء خطرين، وضئيل العدد بما يسهل معه إلحاق الهزيمة به.

قبل نحو ربع قرن، وفي عهد الرئيس بيل كلينتون، تدخّلت الإدارة وأوقفت المذابح التي كان يرتكبها الصرب ضد أبناء البوسنة والهرسك وكوسوفو المسلمين. ذلك زمن مضى غير قابل للتكرار، ولم يكن كلينتون صهيونيا كحال بايدن، فالعدو الآن هم الفلسطينيون المسلمون، ومعهم نسبة غير كبيرة من المسيحيين، ولا بأس من تدمير كنائسهم الأربع، إلى جانب تدمير مساجد المسلمين بالطبع، ومدارسهم، وحتى مراكز الإيواء التي تضم الساعين إلى النجاة. إنها حرب “الحضارة الغربية”، كما ذكر رئيس دولة الاحتلال، إسحق هيرتسوغ، ولا شك أن الحضارة الغربية أكثر تنوعاً مما يقصدُه هذا الشخص، على أن أفضل من يمثل هذه الحضارة، وفق رؤية هيرتسوغ، وكما تدل وقائع الحرب، هم قادة مثل بايدن والبريطاني ريشي سوناك والألماني أولاف شولتز والأوروبية الألمانية أورسولا فون دير لاين، حيث عدو هذه الحضارة هم العرب المسلمون، ويجري اختزالهم بشعب فلسطين، إذ إن مناهضة هذا الشعب الاحتلال وسلب أرضه وكامل حقوقه لا يعدو أن يكون عداءً للسامية ولحضارة الغرب. ولهذا جرى تجريم رفع علم فلسطين في عدة حواضر أوروبية، فالحرب واحدة، حرب نتنياهو وشركائه الغربيين، وفي مقدّمهم بايدن، وهذا الرجل، إضافة إلى أنه رئيس الدولة العظمى، فهو سياسي مخضرم، أمضى أزيد من نصف قرن في الحياة السياسية، وهو يؤيد، كما يقول، حلّ الدولتين (دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية على أرض فلسطين التاريخية)، والدليل على جدّية مسعاه أنه يدعم أعداء السلام وأعداء هذا الحلّ في تل أبيب، وفي مقدمهم نتنياهو، كما يبرهن على جدّيته هذه برعاية الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزّة، وحتى في الضفة الغربية المحتلة، فهو يشجب أعمال المستوطنين، لكنه يؤيد جهود الجيش والشاباك والشرطة في قتل الفلسطينيين هناك وهدم بيوتهم. … هنيئا للجدّ الوديع جو بايدن على نضجه السياسي ووضوحه الأخلاقي.

مقالات ذات صلة