أين سيكون العالم بالنسبة للفلسطينيين؟… الحسن بن طلال

لربما ليس من المستغرب بأن تتصفاتفاقية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين التي أطلقتها الإدارة الأمريكية بسمات “الصفقة العقارية”. إن “صفقة القرن” المقترحة تخلو من أية عناصر للحل الناجح للنزاع، بما في ذلك التحدث والاستماع، وتفضيل المصل0حة العامة الأساسية، واللجوء إلى حل وسط أو التوصل إلى حل مشترك يمكن للأغلبية تأييده. إلا أن ذلك لا يمكن تحقيقه في هذه الصفقة نظرا لغياب أهم الشركاء عن الحوار والذين تم إرغامهم على التغيب عن المكان بسبب مطالب مستحيلة.

إنني أستذكر مقالاً كتبه روبرت فيسك في حزيران (يونيو) 2018، بُعَيد تعليق جاريد كوشنر “أن البحث عن السلام هو أنبل ما يمكن للإنسانية السعي إليه”، تساءل فيه، وهو محق في هذا التساؤل، أنه “بعد ثلاث حروب بين العرب وإسرائيل، وعشرات الآلاف من القتلى الفلسطينيين وملايين اللاجئين، هل يعتقد كوشنر حقاً بأن الفلسطينيين سيرضون بالمال فقط؟”.

المتشائم والساخر بيننا قد يتفق مع كريس دويل، مدير المجلس العربي – البريطاني للتفاهم، حين قال بأن “..السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو تجميلي فقط.” ويؤكد ذلك أفعال سابقه قامت بها الإدارة الأمريكية مثل الموافقة على بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ووقف الدعم لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا)  التي تدعم اللاجئين الفلسطينيين. – وهنا أقتبس مقولة لارا فريدمان، رئيسة مؤسسة السلام الشرق أوسطي: “إنه من الواضح جداً بأن الهدف الرئيسي لسياسة الإدارة الأمريكية هو إزاحة اللاجئين الفلسطينيين كقضية من خلال محو وجودهم.” – وأضيف الفلسطينيين ككل وفلسطين ككيان فاعل. وتتابع لارا فريدمان قائلة: “هذا لن يجعل السلام سهلاً، بل سيجعله أكثر صعوبة.”

إن هذه الصفقة تتجاوز اعتبارات القانون الدولي والعديد من قرارات مجلس الأمن، وتوحي بأنه يمكن للفلسطينيين الموافقة على مبادلة أراضيهم الأكثر خصوبة وانتاجا مقابل الصحراء، في إطار “قرص جبنة غودة” التي تتصل مع بعضها البعض من خلال جسور وأنفاق ومحاطة بشكل شبه كامل بأراضي إسرائيلية سيادية، يمثل إهانة لكرامتهم الإنسانية، ناهيك عن آمالهم وتطلعاتهم نحو المستقبل. كما أني على ثقة بأن الخوف على مصير القدس والحقوق التاريخية المتعلقة بالسيادة على الأماكن المقدسة، هو أمر يهم كل المسلمين في أرجاء العالم.

بالنسبة لي، خلال معظم حياتي، كانت أزمات المنطقة وفقا لعائلتي “مشاكل عائلية”. واليوم، عندما أتأمل في الماضي وبخاصة اللقاءات المبكرة بين حاييم وايزمان وعمي الراحل فيصل الاول في عام 1918 -في أعقاب الحرب العالمية الأولى- كان الحديث آنذاك عن دولة عربية فيدرالية في الإقليم حيث يعيش اليهود والمسيحيون والمسلمون المنتمون إلى الثقافة العربية في إطار من الاستقلال الداخلي والعيش المشترك.

كانت هذه رؤية تبناها جدي أيضاً، استنادا إلى توافق أساسي حول الحاجة للكرامة الإنسانية التامة و-هو أمر غير قابل للتغيير-، والتعددية التي تمنح حقوقاً متساوية لأتباع الديانات المختلفة. لقد كانت في الواقع رؤية مستنيرة، تستند إلى معتقدات أخلاقية متينة، كما إنها كانت أيضاً رؤية بنيوية؛ وقد أطلق عليها أبا إيبان في عقد السبعينيات تسمية البينالوكس للإقليم. ومن المهم بأن نقر بأنه عندما قام الأردن بإعطاء الجنسية للفلسطينيين الأردنيين كان ذلك على أساس أن الفلسطينيين كانوا وديعة، وأن ذلك يجب ألا يؤثر في أي وقت كان على حقهم في تقرير المصير، وهو الحق الذي ينبغي احترامه. ولا يمكننا إلا أن نتساءل كيف كان من الممكن للأحداث والمجريات أن تكون مختلفة في حال لم يتم اغتيال جدي الملك عبد الله الأول ومن ثم اغتيال رابين الذي كان أيضاً صانع سلام عظيم، وذلك بسبب ما يؤمنون به.

إني أستذكر تلك الأيام المثيرة بُعيد توقيع اتفاقية السلام عام 94 عندما كان الأمل كبيراً. في الحاضر يصعب تخيل الأمر، ولكن النوايا آنذاك كانت حسنة إلى حد كبير، حيث أنه بعد جمع تبرعات قيمتها عشرة ملايين دولار للشعب البوسني، قام إسحق رابين بالاتصال بأخي الراحل جلالة الملك حسين واقترح أن يكون التليثون مبادرة مشتركة. وتبعاً لذلك قمنا بتسيير طائرة مساعدات مشتركة. عند الوصول عقدنا مؤتمر صحفي حضره بوسنيون مسلمون وكروات وصرب وموفدون إسرائيليون؛ وجميعهم كان لديهم سبب وجيه لعدم الاطمئنان في تعامله مع الآخر. لكن فحوى الرسالة كانت السلام في البلقان، والسلام في الشرق الأوسط.

إن هناك سببان يؤديان إلى خيبة الأمل: أولاً، لم تتوفر الآلية لاستمرارية تلك الأفكار الاستشرافية؛ ثانياً، على الرغم من قيام بلدي الأردن بتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، إلا أنه كان “سلامًا باردا” لأن  القاعدة لتغيير توجهات الشعوب بما يحقق السلام الدافئ لم يتحقق – أي السلام الذي يتجاوز القادة والذي يشارك فيه جميع الشعوب.

وبعد ربع قرن لا يزال الهدف الذي نرنو إليه أبعد من أي وقت مضى. وعندما يقول جاريد كوشنر في عام 2018: “في بعض الأحيان يتعين عليك أن تكسر الأشياء عمداً في سبيل الوصول إلى الهدف.” فإن ذلك يعكس بشكل مرعب غياب الفهم الصحيح للأوضاع، كما أنه يؤدي إلى تقويض جميع المحاولات الرامية إلى جلب الاستقرار لهذه المنطقة المضطربة.

في الأسبوع الماضي سمعنا إحدى الناجين من محرقة أوشويتز تدلي بشهادتها متسائلة: أين كان العالم…، ولا يسعني إلا أن أتساءل أين سيكون العالم بالنسبة لأشقائنا الفلسطينيين في القادم من الأسابيع والشهور؟    

مقالات ذات صلة