عندما يتردّى الآخرون في اللاحضارة

محمد سي بشير

حرير- لم يكذب باسكال بونيفاس عندما كتب، منذ أعوام حلت، كتابه القيّم “المثقّفون المدلّسون”، في إشارة إلى نخبة من المفكّرين الفرنسيين ديدنهم البحث عن إبداعاتٍ جديدة من بنات أفكارهم يطلقونها على ظواهر تآمرية ضد النقاء العرقي والحضاري الغربي، وجديده أخيراً، و ليس أخيرها، ما تفتق عنه ذهنُهم من وصف حضارة أو إسهامات الآخرين، من غير الغرب، في الحضارة الإنسانية، بكلّ ما تشمله، لاحضارة.

تمادى هؤلاء المثقّفون المدلّسون، وهم، تقريباً، نفسهم من ذكرهم بأسمائهم باسكال بونيفاس، مضافة إليهم وجوه جديدة برزت، أخيراً، ناشرين على الملأ أفكاراً محورها العنصرية، رفض الآخر وإيهام البشريّة بأنّهم مركز الكون وغيرهم أصفار بل عدم، و قد كان سياق ذلك النّشر لتلك الأفكار تراكميا، يُضمّ بعضه إلى بعض، إلى أن وصل إلى ذروته، أخيرا، مع مفهوم “لاحضارة” الذي أطلقوه على كلّ ما هو ليس غربيا من قيم، إبداع، ابتكار أو أفكار إنسانية باعتبار أنّهم، وحدهم، المخوّلون بالّتفكير، بالمبادرة بالفكر والإبداع، في كلّ شيء.

بالرجوع إلى مسار النّشر لتلك الأفكار، تسير تلك النُّخبة من فكرة إلى أخرى ولكن، عن التّركيز والتّمحيص لإسهاماتهم، نجدهم رافضين كل ما هو ليس غربيا بالهوى ثم يبحثون، زعموا، عما يسندون إليه أيديولوجيتهم التّي تقع المركزيّة الغربية في قلبها فمنهم انطلقت الحضارة، إغريقية أو رومانية، تنويرية أو من زمن النّهضة، من أثينا أو روما، أو فلورنسا، لندن وباريس، بل أطلق العالم الآخر عليه اكتشافات جغرافية، وكأنّه لم يكن موجودا ألبتّة، وأبعد من ذلك، أطلقوا على الفترة التّي كان لغيرهم إسهام وتقدُّم في الحضارة الإنسانية، قرونا وسطى قالوا عنها إنّها كانت مظلمة، في حين أنّ قرطبة، القيروان، القاهرة، دمشق، بغداد، كانت حواضر للعلم والإنسانية، آنذاك.

التجأ رموز تلك النُّخبة إلى بعض من الأفكار التّي تشكّل محور التدليس على الرأي العام الفرنسي، حيث يتحدّثون عن الاستبدال الكبير الذي يُراد، من خلاله، التأثير، بعمق، على النسيج السّكاني – الهوياتي الغربي باستخدام أداة الهجرة ثمّ ينتقلون، بعدها، إلى إبراز أنّ عطاءات/ نجاحات نخبة المهاجرين الذين أصبحوا، بعد الجيل الثّاني، مواطنين فرنسيين، في المجالات العلمية، الفرنسية والمقاولاتية، ما هي إلا محاولة لطمس التّداعيات الكبيرة لوجود الآخرين في فرنسا، وصولا، في النهاية، إلى أنّ العملية محضّرة، بعناية، من المهاجرين، وإنّ هدفهم فرض سياقات هوياتية وحضارية غير غربية على المجتمع الفرنسي، لتكون النّتيجة، وفق مزاعمهم، نشرا متعمّدا لظاهرة يمكن تسميتها “لاحضارة”، بما أنّ قيما وهوية تحملان طابعا غير غربي، يُراد لهما أن تنتشرا في فرنسا، وفي المجتمعات الغربية، بصفة عامة، ويُوجب، ذلك، حتما، تصعيدا في مقاربات المواجهة لهما من المثقفين الفرنسيين والغربيين على صفحات المجلات، القنوات الإعلامية وفي الكُتب التّي ينشرها هؤلاء.

يُلاحظ على ذلك السّياق أنّه مرتكز على ادّعاء قدرة الآخرين على الإبداع لدواعٍ متعلّقة، حينا، بأمور بيولوجية، أي أنّ عقول الآخرين، من غير الغرب، غير مجبولة على إنتاج الابتكار أو الإسهام في الإبداع في أيّ صعيد كان، كما يعلقون تلك الدّواعي، أحيانا أخرى، بأسبابٍ ذات صلة بالمناخ، كان، مونتسكيو، قد سبقهم إليها، بزعم أنّ المناخ الحار لا يمكنه أن يكون أرضا خصبة لحضارةٍ ما، بل إنّهم يصلون إلى لون البشرة، الدّين والهويّة غير الغربية، ليحاولوا جعلها الأسباب المفسّرة لتأخُّر العالم غير الغربي واستحالة أن يبدع في أيّ شيءٍ يمكن تسميته حضارة.

حاولت المجلات الفرنسية، في الأسابيع الأخيرة، التّركيز على مفهوم “لاحضارة” وجعلت منه عنوان أغلفتها وصدّرت به نشرات وحصصاً في قنواتها، ليبدو أنّه سياق فكري نخبوي مُبرمج، ويُراد له أن يرسخ في أذهان الفرنسيين، وخصوصا أنّ ذلك السياق يتزامن مع إطلاق مجموعة من المفاهيم ذات البعد الهويّاتي، في محاولة للحطّ من الآخر، من ناحية، ولتمرير قانون الهجرة واللُّجوء الذّي تصادف، نعم تصادف، مناقشته، في الغرفة السفلى من البرلمان الفرنسي، مع حملة وصف إبداع الآخرين باللاحضارة، من ناحية أخرى.

في المقابل، مجرّد الاطّلاع على تلك الأفكار يكفي للتّدليل على الانحطاط والتّخبُّط اللّذين أصابا الحضارة الغربية، وحوّلاها من حضارة إنسانية إلى حضارة رافضة للآخر ومنعزلة عن سياق المشاركة والتّقاسم للقيم، وهي متناسقة مع نفسها إذ أسمت فرنسا، مثلا، قانون التّفريق بين أفراد شعبها، على أساس ديني، بأنه قانون ضدّ الانعزالية كما سبق لمنسّق السّياسة الأوروبية، جوزيب بوريل، وصف أوروبا والغرب بأنّهما الحديقة، والآخرون هم التّوحُّش أو الغابة، في إشارة إلى الفرق بين قيم السّلام الغربية، زعموا، وقيم الظّلامية عند الحضارات أو اللاحضارات الأخرى، بل رأينا كيف تعامل الغرب مع سفينة، قبالة السّواحل اليونانية، حيث لم تُقدّم لها الإسعافات وتمّ تركها تغرق بمهاجريها، في حين خصّص أموالا وبواخر للبحث عن خمسة أثرياء راحوا ضحية سفر مجنون نحو الأعماق للتفرّج على حطام سفينة تيتانيك التي غرقت قبل أكثر من قرن.

إنه سياق الاستمرارية في التعامل مع الآخر من زاوية التّفوُّق للعرق الأبيض والهويّة الغربية، حيث سبق لصامويل هنتنغتون، في خدمة للمركّب الصّناعي العسكري الأميركي والغربي، تقديم إسهام أكاديمي حول الصّراعات بين فواعل حقيقية هي الدول إلى صراعات بين كيانات حضارية مع توجيه زوايا الرُّؤية إلى التهديد وطبيعته بقوله إن ثمّة تهديدا حضاريا شرقيا تعود أصوله إلى الإنسان الأصفر، وبالتّحديد، أصحاب مرجعية فلسفة كونفوشيوس أي الصّين والتّهديد الآخر لونه أخضر، وهو التّهديد الإسلامي، جاءت بعده الحروب التي خاضتها الولايات المتّحدة، في العراق وأفغانستان، بصفة خاصّة، لتصدق تلك الرُّؤى الفكرية، والتّي لم تكن، كما هي الآن، بالنسبة لمفهوم اللاحضارة، إلا تبريرا لحروب قادمة محتملة، قد تكون مسرحها فضاءات اللاحضارة أو التّهديدين المشار إليهما تماما كما كان التّبشير، قبل قرونٍ خلت، تبريرا للاستعمار الرّأسمالي لقارتي آسيا وأفريقيا.

تلك بعض الأفكار بشأن ذلك المفهوم الذي قد يكون له ما بعده، ننتظر، في الأيّام والأشهر المقبلة، ما سيتم ترجمته إليه كما كان الشّأن بالنّسبة لرؤية صراع الحضارات، من قبل …

يكفي، في الأخير، الحديث إنّ من بين مناصري اللاحضارة يوجد رائدان للكراهية في فرنسا، برنارد هنري ليفي، عرّاب التّدخُّلات الغربية في العالم العربي، وإريك زيمور، إضافة إلى جمع من مدلسين يوصفون بالمثقفين، كان بونيفاس قد قدّم لنا بعضاً منهم ويبقى لنا، مع الأيّام، الكشف عن البقيّة.

مقالات ذات صلة