مكارثية جديدة للتماهي الغربي مع إسرائيل

عمر كوش

حرير- ليس غريباً ما ساد من حالة تماهي مواقف معظم ساسة الغرب والمسؤولين فيه مع مواقف ساسة إسرائيل وجنرالاتها، في حرب الإبادة الجماعية التي يشنونها ضد الشعب الفلسطيني، وخصوصا في قطاع غزة، لكن الغريب ألا ينحصر هذا التماهي على مستوى السياسة فقط، بل أن يتحوّل إلى مكارثية جديدة، طاولت وسائل الإعلام ومؤسّسات الثقافة وسواهما، حيث راحت تلاحق مناهضي هذه الحرب، في محاولةٍ لإسكات صوت كل من يقف ضدّها، ومنع كل من ينتقد جرائم إسرائيل، وسعيها إلى التهجير القسري لفلسطينيي قطاع غزّة، ووصلت إلى حدّ إصدار قوانين وتشريعات تحدّ من حرية التعبير، وتقيّد من حقّ التظاهر، وبما يهدّد مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي لطالما تغنّى بها معظم ساسة الغرب الشعبويون تزلفاً وتدليساً، فيما هم، في حقيقة الأمر، لم يكفّوا عن توظيفها وفق ما تقتضيه مصالحهم، مع أن هذه المبادئ والحقوق هي نتاج نضال مرير وشاقّ، خاضه مفكرون وفلاسفة إلى جانب قوى إنسانية كثيرة، وخصوصا في الغرب الحديث، ضد قوى التسلّط والاستبداد والعبودية، وضد كل مظاهر القهر والقمع ومصادرة الحريات.

لم يكتف مسؤولون وقادة في الغرب بمواقفهم المؤيدة والداعمة لمواقف نظرائهم الإسرائيليين فقط، بل الأدهى أنهم اصطفّوا فوراً خلفهم، ثم تقاطروا سريعاً إلى تل أبيب، وكأنها تحوّلت إلى وجهة للحج بالنسبة إليهم، ولمباركة ما تقوم به من مجازر، وتبريرها بادّعاء حقّ الدفاع عن النفس، والرد على هجوم حركة حماس، وغضّ النظر عن استهداف المدنيين الفلسطينيين، بل وذهب بعضها إلى القول إنهم يخوضون الحرب نفسها مع إسرائيل، فضلاً عن إمداد جيشها بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، وتخصيص ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب لتمويل حربها. وعليه، لم تكتف الولايات المتحدة بحشد حاملتي طائرات وإقامة جسر جوي إلى إسرائيل، بل شارك وزير دفاعها لويد أوستن في اجتماع لمجلس الحرب الإسرائيلي، فضلاً عن مشاركة وزير خارجيها أنتوني بلينكن في أحد اجتماعات حكومة الحرب لإسرائيلية. أما المستشار الألماني أولاف شولتز، فقد سارع إلى وقف المساعدات الإنسانية لمحتاجيها من الفلسطينيين، وذهب إلى حدّ اعتبار أن “أمن إسرائيل جزء من وجود ألمانيا”، ومنعت سلطات بلاده كل أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، وكذلك فعلت فرنسا التي توعد فيها وزير العدل كل من يتضامن مع الشعب الفلسطيني بالسجن خمس سنوات، فيما تمادى رئيس الكتلة المعارضة في البرلمان الألماني إلى حدّ المطالبة باشتراط الاعتراف بإسرائيل للحصول على الجنسية الألمانية.

اللافت أن الأمر لم يتوقّف على الساسة والمسؤولين، بل انتقل مباشرة إلى معظم وسائل الإعلام وبعض مؤسّسات الثقافة، حيث انتشر خبر قطع رؤوس 40 طفلاً إسرائيلياً كالنار في الهشيم، وغطّى الصفحة الأولى في عدّة صحف عالمية، من دون القيام بأي تحقّق أو بحث عن مصادر وأدلّة كافية، وعلى الرغم من تكذيب الخبر (ردّده الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أن يتراجع عنه)، إلا أن بعض وسائل الإعلام لم تعتذر لقرّائها ومشاهديها، بل إن بعضها لم يحذف الخبر من موقعه الإلكتروني. وجرى خلط مريب في بعض وسائل الإعلام المؤثرة في الرأي العام الغربي بين حركة حماس وعموم الفلسطينيين، وأوغل بعضها في نشر أخبار زائفة وتحريضية ضد الفلسطينيين، وطاول الأمر أيضاً معظم وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتيك توك مثلا. وفصلت وسائل إعلام من يشبته بتعاطفهم مع الفلسطينيين، حيث فصلت شبكة إم إس إن بي سي الأميركية ثلاثة من مذيعيها، فيما حقّقت هيئة الإذاعة البريطانية مع ستّة من صحافييها بسبب تغريدات نشروها عن فلسطين. في المقابل، لم تجرؤ وسائل الإعلام الغربية حتى على إدانة إسرائيل لقتلها مصوّر وكالة رويترز عصام عبدالله في أثناء أدائه عمله في جنوب لبنان، إلى جانب إصابة ثلاثة من زملائه الذين كانوا معه في المكان ذاته.

عادت المكارثية في صورتها البوليسية الجديدة إلى معظم دول الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ولم تقتصر على السياسة ووسائل الإعلام، بل وصلت إلى ميدان الثقافة سريعاً، حيث حرم منظّمو معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الروائية الفلسطينية عدنية شِبلي من جائزتها التي كان المفترض أن تُمنح لها عن روايتها المترجمة إلى الألمانية “تفصيل ثانوي”، بل اتهمتها أوساط ألمانية بمعاداة السامية. وامتدّت يد المكارثية إلى ميدان الرياضة أيضاً، عبر ملاحقة مشاهير الرياضيين الذين يبدون تعاطفهم مع أهالي غزّة، وخصوصا اللاعب الفرنسي ذا الأصول الجزائرية كريم بنزيمة، الذي قال: “كل صلواتنا من أجل سكّان غزة الواقعين مرّة أخرى ضحايا لهذا القصف الظالم”، وقد سارع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين إلى اتهامه بالارتباط مع الإخوان المسلمين، وطالب بمعاقبته، والتفكير بسحب الكرة الذهبية منه، وحتى التفكير بسحب الجنسية الفرنسية منه، كما طالبت بذلك أيضاً عضو البرلمان الفرنسي فاليري بوييه، فيما ذهب المرشّح السابق للرئاسة الفرنسية اليميني المتطرّف إيريك زيمور إلى مهاجمة بنزيمة واتهامه بوجود صلة مباشرة له في مقتل المدرس الفرنسي دومينيك برنارد.

في المقابل، لم تصمت أصواتٌ حيّة عديدة في دول الغرب، ولم تقف مكتوفة الأيدي، بالرغم من حمّى المكارثية الجديدة الطاغية، إذ على الرغم من سطوة البروباغندا الإسرائيلية والأبواق المساندة لها، رفضت شخصياتٌ عالميةٌ ممارسات الاحتلال الإسرائيلي. ورفضت كذلك عمليات التسويق لاستباحة الدم الفلسطيني. ووسط عبثية المكارثية، واصلت الممثلة الأميركية الشهيرة سوزان سارندون، الحائزة على جائزة أوسكار عام 1995، إظهار دعمها وتضامنها مع الشعب الفلسطيني، عبر إعادة نشر تغريدات لناشطين غربيين وعرب داعمين للقضية الفلسطينية، وفضح الحرب الإسرائيلية، عبر نشر صور استخدام إسرائيل ذخائر الفوسفور الأبيض ضد أهالي غزّة، وانضم مشاهير آخرون لدعم الفلسطينيين في غزّة، من بينهم الممثل الأميركي مارك رافالو، والملاكم النيوزلندي سوني بيل ويليامز، والمغنية السويدية زارا لارسون، ولاعب المنتخب الفرنسي السابق فرانك ريبري، وغيره.

لا تنحصر أهداف المكارثية الجديدة في دعم إسرائيل وإسكات أصوات معارضي سياساتها وممارساتها فقط، بل تمضي إلى تهديد قيم الديمقراطية ومبادئها. وهي لا تعمل كستار خلف تزايد الفوبيا حيال العرب والمسلمين، بل تريد إعادة الاعتبار لأشكال مما بعد النازية، التي يستغلها اليمين المتطرّف والشعبوي من أجل نشر الكراهية والعنصرية، وشيطنة كل المتضامنين مع القضية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة