أبعد من الفشل الاستخباراتي: عن انهيار السجن كرؤية

رازي نابلسي

ما وراء العمى الإسرائيلي

لا شك أنه كان هُناك فشلٌ استخباراتيٌ إسرائيليٌ مدوٍ، إذ لم تكُن هُناك أي تحذيرات أو معلومات مسبقة عمّا تُخطّط له حماس، رغم حصار قطاع غزة ومساحته الضيّقة وسيطرة «إسرائيل» فيه على الحدود والجو والبحر. هذا الفشل سيُبحث لاحقًا، خاصة لأنه أكبر فشل في تاريخ المستوطنة، وهو فشل بدأ بمُقارنة مع حرب أكتوبر 1973، ليتضح لاحقًا أنه أكبر من فشل حرب «يوم الغفران»، حيث في تلك الحرب لم تقُم الجيوش العربية باقتحام المستوطنات الإسرائيلية، وتركّزت الحرب في جبهات القتال داخل الأراضي المُحتلة لهذه الدول. إلّا أن وراء هذا الفشل الاستخباراتي والعسكري دوافع أعمق يجب أخذها بعين الاعتبار لفهم سياقه.

بداية، خلال أيلول الفائت اندلعت مواجهات سلمية مع قوّات الاحتلال على الشريط الذي يُحاصر قطاع غزة، واستطاعت «إسرائيل» قمعها عبر أداتين: القمع العسكري من خلال القنّاصة وقنابل الغاز السام والقصف الجوّي؛ وعبر تشديد الحصار من خلال إغلاق المعابر ومنع العمّال الفلسطينيين من الدخول للعمل في أراضي 48. عمليّة القمع هذه، عزّزت الرؤية الإسرائيليّة القائلة بأن حماس معنيّة بتحسين الظروف الاقتصادية داخل القطاع وغير معنية بالتصعيد، خاصة وأن التحليلات الإسرائيليّة كاملة قد أشارت قبل ذلك إلى نيّة حماس إشعال الضفة الغربية في الوقت الذي كانت تسعى فيه لإدامة الهدوء في قطاع غزة.

الهدف غير المُعلن للعدوان على غزة الآن هو إعادة بناء الثقة بين الجيش وجمهور المستوطنين- وهو الضرر الأكبر الذي لحق بـ«إسرائيل» نتيجة عمليّة طوفان القدس.

تأسيسًا على هذه الرؤية، تم توزيع القوّات العسكرية ونقل التركيز السياسي لحسم الصراع على الضفة الغربية، وهو ما تم التعبير عنه بأمرين: أولًا العودة إلى الاستيطان في شمال الضفة وتعديل قانون «فك الارتباط» الذي منع الاستيطان هُناك، وبدء بناء المستوطنات فيها لأجل مأسسة السيطرة ومنع نمو وانتشار المقاومة خاصة في جنين ومنطقة نابلس. وثانيًا، نقل القوّات والتركيز الأمني إلى هناك بهدف حماية هذا الاستيطان وعربدة المستوطنين الذين قاموا ليلة الهجوم على مستوطنات غلاف غزة بإقامة خيمة صلاة على الشارع الرئيسي في حوّارة لأجل ما أسموه «الردع».

كما خلقت الجولات القتالية التي حصلت في القطاع ولم تتدخّل فيها حماس، حالة من الوهم الإسرائيلي بأن حماس مُختلفة عن الجهاد الإسلامي على صعيدين مركزيين: علاقتها بالمحور «الإيراني»، حيث رأت «إسرائيل» بالجهاد الإسلامي الجهة المسؤولة عن التدخّل الإيراني في الساحة الفلسطينية؛ وثانيًا، مسؤولية حماس عن حياة السكّان والحكم والسُلطة في غزة تجعل من حساباتها محليّة فلسطينية أكثر ممّا هي إقليمية. لذلك تم التركيز على الجبهة اللبنانية والتوتّرات فيها خلال الآونة الأخيرة، وتم إهمال حماس على اعتبار أنها منشغلة بترميم الوضع الاقتصادي للقطاع.

إذًا، ما الذي فشل؟ 

القراءة من هذا الباب تجعل من الفشل الاستخباراتي الأساسي نتيجة لرؤية وقراءة شاملة إسرائيليّة للحالة الفلسطينية، بدأت في نهاية ولاية نتنياهو السابقة وخلال فترة الاتفاقيّات الأبراهيمية مع الإمارات والبحرين. وتقوم على أنّه يمكن إنهاء القضية الفلسطينية ليس عبر حلها، بل من خلال تجاهلها كقضية سياسية والتركيز عليها كقضية اقتصادية أمنية؛ يُمكن حسم الصراع على الضفة، في الوقت الذي يتم فيه اللعب في حدّة الحصار للسيطرة على قطاع غزة بوصفه السجن الأكبر، والإبقاء على حالة الانقسام كمُبرّر لانعدام وجود بيت واحد فلسطيني أصلًا- بل التعامل مع الفلسطينيين كسجناء يتعاملون مع المُحتل بأدب: مركز الضفة الغربية يتمتّع بحريّة حركة أوسع من شمالها الذي باتت تُغلق عليه الطرقات ويُحاصر في نابلس وجنين؛ جنوب الضفة لديه ظروفه الخاصة وعشائر الخليل لها حكمها الذاتي وتُقسّم بحسب العائلية والقبائلية؛ هذا في الوقت الذي يتم فيه احتواء أحياء القدس المُختلفة أيضًا وفقًا لدرجة التزامها بالهزيمة. وفي الوقت ذاته، تُهاجم قطعان المستوطنين والجيش التجمّعات البدوية في ما يُسمّى «مناطق ج» فتدفعها إلى الهجرة إلى «مناطق أ» وتكدّسها في المعازل بين جنوب ومركز وشمال الضفة وتُبنى الجسور.

انهارت مُجمل الرؤية والقراءة الإسرائيليّة التي اعتقدت أنه يمكن سجن المجموع الفلسطيني إلى الأبد دون أمل ودون مستقبل ودون كرامة.

تعزّز هذا الاتّجاه مع بدء المفاوضات الإسرائيليّة الأمريكية مع السعودية للوصول إلى اتفاق تطبيع تأمل السعودية بالحصول على أسلحة ومفاعل نووي وحماية أمريكية في إطاره؛ وفي المُقابل، تمنح السعودية «إسرائيل» صك الموافقة بصفتها قائدة العالم الإسلامي السنّي على هذا الواقع، فتغدو «إسرائيل» مركبًا مركزيًا في الإقليم وصراعاته وتتمأسس حالة السجن الفلسطيني. وفوق هذا كلّه، تُخيّم منظومة السيطرة التكنولوجية الإسرائيليّة: منظومات الذئب الأزرق والأحمر للتعرّف على الوجوه؛ كاميرات مُراقبة على الجدران؛ وقتال عن بُعد عبر المسيّرات وغيرها من الأدوات القتالية التي تسمح للجندي بالبقاء داخل الغرفة المكيّفة، حرفيًا كحارس سجن يجلس أمام كاميرات المُراقبة في ساعات الليل والأسرى في الأقسام.

وبالنتيجة، هذا هو ما انهار، مُجمل الرؤية والصورة الشاملة والقراءة الإسرائيليّة التي اعتقدت أنه يمكن سجن المجموع الفلسطيني إلى الأبد دون أمل ودون مستقبل ودون كرامة، لكن وحده العنجهي والمستعمر هو من يُمكن أن يصدّق أن هذا النموذج يمكن أن يتأبّد. وهو ما عبّر عنه بعصبية، الجنرال يغآل كرمون رئيس معهد «ممري» للأبحاث، قائلًا «وحده من يُشترى يمكن أن يعتقد أنه يستطيع شراء الناس بهذا الشكل».

الصدمة، والانتقام

أتابع الإعلام الإسرائيليّ أكثر بكثير ممّا أتابع الإعلام العربي أو الفلسطيني، بحُكم العمل ومعرفة اللغة. هذه الحرب كانت المرة الأولى التي فيها انتقلت لمُشاهدة القنوات العربية الإعلامية بدلًا عن الإسرائيليّة، لأن الإسرائيليّة كانت فارغة من كُل مضمون إلّا اثنين: صدمة جارفة وعدم فهم للتفاصيل ولما حصل؛ ومن جهة أخرى رغبة جامحة بالانتقام الذي تحوّل إلى سياسة رسمية. أفضل من عبّر عن التوجّهين كانا مراسليْ القناة الإسرائيلية 12، تامير ستايمن مُراسل القناة في منطقة الجنوب ونير دفوري مراسل القناة للشؤون العسكرية. الأول، قال خلال البث المفتوح لليوم الأول من الحرب: ماذا أراد سكّان الغلاف، ماذا طلبوا إلّا الهدوء والسلام ؟ أمّا الثاني، فكان عصبيًا ومستفزًا خلال أول يومين، وأكثر ما تردّد على لسانه كان: ليس هذا ما أتوقّع أن أراه في غزة، يخرج من الاستوديو ويعود ليقول إن هناك تجهيزات لشيء كبير.

لم يتوقّف الأمر عند الإعلاميين، وانضم سريعًا إليهم رموز المؤسسة العسكرية الذين خرجوا من الخدمة الرسمية ويتولّون مناصب في مراكز أبحاث الأمن القومي. فنشرت القناة 12 مُقابلة مع مئير بن شابات، رئيس مجلس الأمن القومي سابقًا ومؤسسة معهد «مسغاف- للاستراتيجيا الصهيونية» حاليًا، قال فيها إنه «يجب الخروج من طريقة العمل الدقيقة التي على الرغم من أنها تستعرض قدرات «إسرائيل» الخاصة، إلّا أنها تحتاج تحضيرات كثيرة وغير قادرة بجميع الأحوال على تدفيع حماس الثمن. مضيفًا أنه «يجب التوقّف عن سياسة الصواريخ التحذيرية لأنها تبطئ وتيرة العمل». وهو، ما عاد وأكده الناطق الرسمي باسم الجيش حين قال «التركيز هو على الضرر وليس الدقة». وما عاد وأكد عليه وزير الأمن يوآف غالانت، الذي قال للجنود إنه «حرّر القيود عنهم». وعمليًا، هذا ما حصل فعلًا مع إبادة أحياء كاملة في قطاع غزة كحي الرمال والكرامة وغيره. وهو ما يُضاف إلى مقولة نتنياهو في اليوم الأول بأن ما يحصل هو «حرب» وليست عمليّة كما كان يحصل سابقًا، هذا كان إشارة واضحة إلى أن «إسرائيل» ستقصف وتنتقم من القطاع برمّته بمعايير مُختلفة.

مُحاولة ترميم الثقة بين جيش اختفى ومستوطن مصدوم

بدأ الرد الإسرائيليّ رسميًا في اليوم الثالث للحرب، أي بعد انتهاء المرحلة الأولى وهي «تطهير» المستوطنات في «غلاف غزة» من عناصر المقاومة الفلسطينية الذين اجتاحوها، رغم تضارب البيانات الإسرائيلية الرسمية حول هذه الجزئية. فأعلن وزير الأمن يوآف غالانت قطع الماء والكهرباء والوقود عن القطاع، وأعلن آفي ديختر وزير الزراعة ورئيس جهاز الشاباك سابقًا أن الهدف سيكون نزع القدرات العسكرية عن «حماس» كليًا؛ أمّا نتنياهو فربط مُباشرة بين حماس و«داعش»، في خطوة الغرض منها تجنيد الغرب واستعادة ذاكرته ورص صفوفه.

هذا بالإضافة إلى العشرات من المحللين الذين كتبوا مُباشرة: يجب تفكيك حماس. أمّا الهدف غير المُعلن للعدوان على غزة الآن، وهو الهدف الأهم: إعادة بناء الثقة بين الجيش وجمهور المستوطنين- وهو الضرر الأكبر الذي لحق بـ«إسرائيل» نتيجة عمليّة طوفان القدس. وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى ما قاله رئيس مجلس إقليمي «إشكول» في «غلاف غزة» تعليقًا على سؤال إن كانوا المستوطنون سيعودون إلى الغلاف إنه «هُناك عقد ما بيننا وبين الدولة، نحن نستوطن ونبني بروح الصهيونية، وهي عليها حمايتنا».

هذا الأمر ليس هامشيًا، بل لعله أهم نقطة في الحالة الإسرائيليّة على عدّة أصعدة: أولًا أن مُبرّر وجود دولة «إسرائيل» برمّته هو «حماية اليهود»؛ وثانيًا لأن المستوطن والجيش هما ضلعان يتكاملان في مشروع بناء الدولة واستمرارية وجودها، من خلال السيطرة على الأرض وحماية هذه السيطرة؛ وثالثًا، لأن المستوطن يمد الدولة بالأبناء للجيش وبالعطاء مُقابل قدرة الدولة على الحفاظ على موقعه في الأرض. ومن هُنا، فإن الهدف الأساسي هو إثبات أن الجيش لا يزال قويًا، وأن الدولة لا تزال موجودة.

– 7ber

مقالات ذات صلة