النموذج الصيني، مستقبل الرأسمالي… روبير بواييه

مع انهيار الاتحاد السوفياتي، توقع عدد من المثقفين «نهاية التاريخ»، أي تربع السوق والديموقراطية محل التخطيط الاقتصادي السوفياتي وهيمنة الحزب الشيوعي. ولكن مسار الصين دحض هذه التنبؤات، ومفادها أن الديموقراطية هي السبيل الوحيد الى الحداثة وحسن الأداء الاقتصادي. ومنذ عقدين، فهمُ تطور الصين العظيم هو تحدٍ يمتحن الشطر الراجح من النظريات الاقتصادية. وهي وقفت أمام هذا التحدي ولم تجمع على فهم واحد له. فدعاة تحرير قوى السوق يرون أن النموذج الصيني كان الجسر إلى تقليص الفقر. ومن يتمسك بدور الدولة في الاقتصاد، يرى أن التخطيط الاقتصادي هو وراء النجاح هذا. وتشير نظريات النمو والتطور إلى أن اللحاق بالركب التكنولوجي هو عامل بارز في النجاح الصيني. ويرى دارسو الاجتماعيات الاقتصادية أن التنوع وقوة الوشائج بين الاقتصاد والسياسة هما أبرز ما يسم النموذج الصيني. فهذا البلد ابتكر وسيلة للربط، ولو كان ربطاً جزئياً، بين مصالح الطبقة السياسية والمقاولين على المستويين المحلي والوطني الأوسع. وحفزت السلطات المحلية بروز مقاولين، وهم مصدر انتاج الثروات. وتيسر سلسلة «من أصحاب المصالح المحلية» التعاون بين الطبقة السياسية والمقاولين. وهذه النتيجة المنطقية لتكامل أهدافهما: من جهة، جني أقصى حد من الضرائب، ومن جهة أخرى تحسين الميزة التنافسية في كل منطقة أو دسكرة من طريق تحريك الدينامية الاقتصادية.
ولا ينزلق التنافس بين المناطق إلى الفوضى ولا إلى نزاع مزمن. ويعود الفضل في هذا إلى ارساء شبكة أمان بين الشركات والحكومة. وساهم الحزب الشيوعي الصيني وسلسلة علاقات شخصية في نسج الشبكة هذه. ودور الحزب الشيوعي الصيني راجح: ساهم أعضاؤه مساهمة راجحة في تشكيل مجموعة المقاولين، وهي ركن عملية الاصلاح والنمو.

ولا يستند الاقتصاد الصيني إلى رأسمالية حاديها اليتيم هو بحث مقاولي القطاع الخاص عن الربح والمكاسب. ففي مثل هذه الرأسمالية، النخب تُمسك بمقاليد الموارد الاقتصادية. ولا يتصدر الأولويات إرضاء المستهلكين أو زيادة أرباح اصحاب الأسهم، بل الجمع بين أهداف سياسية واقتصادية من أجل تحريك عجلة النمو. ويبدو أن اندماج الصين في حلقات التجارة العالمية بلغت ذروتها وحدها الأعلى في منتصف الألفية الثالثة، قبل اندلاع الأزمة المالية في 2008. ومع نمو الرواتب، هاجر انتاج السلع المكثف إلى دول آسيوية أخرى اليد العاملة فيها بخسة. وثاني محرك للاقتصاد الصيني هو الاستثمار، وعائداته اليوم تنحسر. ولذا، تمس الحاجة إلى زيادة الاستثمار للحفاظ على مستوى النمو السابق. وفي الماضي، ساهمت الديون المصرفية في استثمار شركات الدولة والجماعات المحلية في البنى التحتية. ولكن مساهمة القروض في النمو صارت شائكة منذ 2009. ويتعذر مذ ذاك على الجهات الخاصة الحصول على قروض من أي من المصارف الوطنية. وهذا التعذر وراء انبعاث الأنظمة المصرفية الموازية التي تعصى على الرقابة وتقدير الأخطار. وتراجع دور القروض في تحفيز النمو الاقتصادي، ولم يعد يساهم في تخفيف التوترات الاقتصادية- الاجتماعية التي تعصف بهذا النظام.

وانتهى رفع القيود عن سوق البورصة وسعي النظام الى التزام نظام صرف يحتسب أكثر آليات السوق إلى أزمتين نبهت الحكومة الى عسر الضبط المالي. وارتفعت رواتب الحد الأدنى ولكن نمو هذه الرواتب اصطدم بالسلطات المحلية التي لا ترغب في تقويض تنافسية الشركات. ويعرقل حظر تمثيل العمال تمثيلاً مستقلاً ومباشراً، توحيد الرواتب ورفعها على المستوى الوطني. ولا تسمح مساعي إرساء شبكة ضمان اجتماعي لمعالجة ما يترتب على شيخوخة المجتمع، بتوزيع الثروات توزيعاً يربط حركة الطب بالمداخيل.

ومثلما أدت الثورة الصناعية الإنكليزية إلى معدلات تلوث مديني ضخمة، الهواء في كبرى المدن الصينية بالغ التلوث ويخنق التنفس، في وقت أن الامن الغذائي مهدد والتربة الزراعية لم تعد خصبة. وإذا كان القول أن الأزمات الكبيرة تلد الابتكار والحلول، في محله، برز الاقتصاد الصيني قوة نمو مستدام. وشطر بارز من البحوث الصينية يتناول الطاقة المتجددة. وعليه، صار دور الشركات الصينية بارز في هذا المجال. ولم تعد الولايات المتحدة مرجع مطلق في تنظيم المجتمعات المعاصرة. واليوم، ينظر إلى الصين على أنها نموذج بديل. وأرخى النمو السريع والنجاح الاقتصادي والقوة العلمية بظلهما على حسنات الديموقراطية وفضائلها. لذا، أعين الحكومات التي تميل إلى حكم عمودي سياسي في القطاع الاقتصادي، على الصين. والنموذج يستند إلى قوته الاقتصادية القارية، ودور دولة الحزب الواحد، والتحدر من إرث في ممارسة السلطة- وهذه سمات تهدد ذيوع النموذج هذا وانتشاره.

* خبير اقتصادي، عن «لو موند» الفرنسية، 22-23/4/2018، إعداد منال نحاس

مقالات ذات صلة