الصين: تيك توك للخارج وماو للداخل!

د. فيصل القاسم

حرير- عجيب أمر الصين، فهي تمارس أقصى أنواع المتناقضات على عينك يا تاجر دون أي خجل أو وجل، وبإمعان لا تخطئه عين، فهي مازالت تُحكم قبضتها على الشعب_الصيني على الطريقة الماوية في كل المجالات، بينما تصدّر للخارج أسوأ أنواع الليبرالية المتوحشة والفالتة من عقالها بكل مظاهرها وأنواعها الإعلامية والاقتصادية والتجارية والثقافية. ما يصلح للخارج لا يصلح للداخل، فعلى الصعيد الأمني مثلاً كلنا لاحظ كيف تعامل النظام الصيني مع جائحة كورونا بطريقة عسكرية وقبضة حديدية كالتي استخدمها مؤسسو الدولة الصينية الحديثة بدءاً بماو تسي تونغ وانتهاء بالقيادة الحالية التي مازالت تسير على خطى المؤسسين أمنياً واجتماعياً وسياسياً رغم كل نجاحاتها وانفتاحاتها الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية عالمياً. لقد استخدمت الحكومة الصينية أشد وأعتى طرق التحكم والقمع والمنع والتعتيم الإعلامي أثناء الجائحة وأقفلت مدناً بأكملها وسجنت ملايين البشر داخلها لفترات طويلة. صحيح أن هذه السياسة القمعية نجحت في مواجهة الوباء، لكنها جاءت للتأكيد على أن كل هذا الانفتاح الصيني التجاري والاقتصادي والمالي والإعلامي على العالم يقابله ديكتاتورية وقبضة حديدية عز نظيرها في العالم على المستوى الداخلي.

انظروا إلى التطبيق الصيني الشهير «تيك توك» مثلاً الذي يجتاح العالم أجمع بما فيه الغرب، وبات يشكل صداعاً لأمريكا وأوروبا ذاتها بسبب حريته المنفلتة من عقالها. ولو قارنا التطبيق الصيني ومدى الحرية اللامسؤولة التي يمنحها لمتابعيه بالحرية التي تمنحها مواقع التواصل الغربية لمتابعيها وروادها، لوجدنا أن الأخيرة تبدو متزمتة أحياناً مقارنة بـ «تيك توك» الذي أصبح فيه كل شيء مباحاً تقريباً، بينما تعاقبك مواقع التواصل الغربية المشابهة على أبسط فيديو أو صورة أو حتى منشور يخالف قوانين النشر. لقد تفوق التطبيق الصيني في الفلتان الإعلامي على كل التطبيقات الغربية، وصار يؤرق المجتمعات الغربية ذاتها التي كانت تقدم نفسها للعالم حتى وقت قريب على أنها رمز الحرية والتحرر والانفتاح، فجاء «تيك توك» ليجعل بقية التطبيقات تبدو محافظة ورجعية. وكما هو واضح فإن الصين تمارس السياسة في الداخل على الطريقة الشيوعية الديكتاتورية المعهودة، وهذا طبعاً ينسحب في الوقت نفسه على المحتوى الإعلامي داخلياً بنفس الطريقة المتشددة، فهي مثلاً تحجب كل التطبيقات العالمية عن الشعب الصيني الذي لا يستطيع الدخول إليها، كما تفرض عليه تطبيقات تواصل محلية مشابهة للتطبيقات الغربية لكن بضوابط ومحتوى صيني بحت، فليس لدى الصينيين «فيسبوك» أو «تويتر» أو «انستغرام» أو «يوتيوب» أو «واتساب» التي يعرفها سكان العالم أجمع، بل لديها تطبيقات صينية. لكن في الوقت الذي تحجب فيه الصين مواقع التواصل العالمية عن شعبها، فهي تصدر للعالم أكثر تطبيق ليبرالي متوحش في تاريخ الإعلام ألا وهو «تيك توك» طبعاً.

الصين تحجب كل التطبيقات العالمية عن الشعب الصيني الذي لا يستطيع الدخول إليها، كما تفرض عليه تطبيقات تواصل محلية مشابهة للتطبيقات الغربية لكن بضوابط ومحتوى صيني بحت، فليس لدى الصينيين «فيسبوك» أو «تويتر» أو «انستغرام» أو «يوتيوب» أو «واتساب». ولو قارنت المواد التي تسمح بها الصين على تطبيق تيك توك في الخارج بالمواد التي تسمح بها على التطبيقات الصينية المشابهة في الداخل لوجدت الفرق شاسعاً جداً، فبينما كل أنواع الانحلال والشذوذ والانحطاط مسموحة في «تيك توك» فإن المحتوى الصيني داخلياً مضبوط ويخضع لمراقبة شديدة وهو دائماً وأبداً تحت أعين القيادة السياسية والإعلامية التي تراقب كل شاردة وواردة في البلاد. وقد جاء الجيل الخامس من التواصل الإلكتروني الذي كان للصين دور كبير في إطلاقه وتعميمه عالمياً، كان له دور رهيب في تشديد الرقابة والتحكم بالداخل الصيني، بحيث بات أكثر من مليار من الصينيين يومياً تحت أعين ملايين الكاميرات بفضل تقنية الجيل الخامس التي تحكم قبضتها اليوم على كل زاوية في البلاد. وهناك من يقول إن المواطن الصيني يخضع للمراقبة على مدار الساعة بعد أن يخرج من منزله حتى يعود إليه. ونتساءل هنا: ما هذا التناقض العجيب بين سياسة القمع والمراقبة الصينية الصارمة على الشعب في الداخل، وبين هذه الحرية الصارخة في تطبيق «تيك توك» الذي يترك لرواده الحبل على الغارب كي ينشروا كل أنواع الممنوعات والموبقات؟

البعض يرى أن الصين تتصرف مع «تيك توك» كما تتصرف سياسياً، فبينما تتبع سياسة شيوعية ديكتاتورية متشددة في الداخل، فهي تمارس رأسمالية متوحشة في تعاملها مع الخارج. وهذا ما يجعل النظام الصيني مختلفاً عن الأنظمة الغربية التي تمارس الليبرالية في الاقتصاد والسياسة والإعلام معاً، بينما تفصل الصين بين السياسة الديكتاتورية التي تمارسها في الداخل والاقتصاد الليبرالي المتوحش الذي تصدره للخارج.

ما هو الهدف يا ترى من هذه الازدواجية الصينية: تيك توك للخارج يشجع كل أنواع الانحلال والفوضى والانحطاط والشذوذ والغباء، وتطبيق آخر داخلي مضبوط ومحدد موجه للشباب الصيني وهو ذو محتوى هادف ومختلف؟ هل يخدم هذا التوجه الأهداف الاستراتيجية الإمبريالية المستقبلية للصين؟ أم يجعل الصين اليوم تبدو للعالم بأنها صارت رمز الانحلال والفلتان والتوحش والفوضى؟ ما أشبه هذه الازدواجية الصينية بالاستراتيجية الإيرانية: الشادور والعمامة للداخل والمخدرات للخارج؟

مقالات ذات صلة