ماذا نفعل في موسم الصعود على الجثث؟

كالانهيارات الجليدية التي تتراكم وتتضافر تشقّقاتها لسنواتٍ قبل أن تُعلن عن نفسها بالشظايا الضخمة المتناثرة والقرقعات الانفجارية التي تصمّ الأذان، تنمو بذورُ انهيار النظام العالمي القائم، ببنية هيمنته السياسيّة والاقتصاديّة المُتمحورة حول القلب الغربي والمُتعسكِرة بحلف الناتو. ببطءٍ يُخفي بذاته ما تظهره بوضوح اتجاهاته الذرّية الوليدة للناقد المنتبه، إنّه نظام يتداعى ويسير إلى قبره فعلياً مهما بدا قوياً عتياً، شأنه شأن أيّ نظام سبقه كان يظنّه معاصروه أحد حقائق وطبائع الحياة، لكن سرت عليه “سُنّة الله في الذين خلوا مِن قَبل، ولن تَجد لسنة اللهِ تبديلاً”.

واليوم، أتت الحرب الروسية الأوكرانية لتمثّل أوّل انشقاقٍ كبير مُعلن في ذلك النظام، مما اختمرت جذوره لعقودٍ مضت، ومما يعكس المنطق الطبيعي للأمور والسنن الثابتة للتاريخ من استحالة استمرار الهيمنة الغربية. هذه الهيمنة فقدت أولاً أساسها المادي والتاريخي بتراجعها على صعيد الإنتاج الماديّ وشروطه، وثانياً، بالمنطق المُجرّد والحساب الفيزيائي البحت، ليست سوى استثناء عابر في التاريخ، يتناقض مع الحجم الحقيقي للغرب. يتضح ذلك يوماً بعد يوم، ليُعبّر عن التناقض الأساسي في النظام العالمي المعاصر، ما بين بنيته التحتية (بالصعود الاقتصادي والإنتاجي للصين بالأساس) وبنيته الفوقية (بالهيمنة المالية والمؤسسية الغربية والأميركيّة بالخصوص)، لتفسّر بذاتها الهستيريا الغربية ضد أي محاولة تمرّد حتى وإن حدثت من قوة عظمى سابقة، وضد أي محاولة منافسة حتى وإن كانت من قوة عُظمى صاعدة، تحديداً مع اختلاف طبيعة الانتقال في مركز النظام العالمي هذه المرة عن أيّة مرة سابقة في التاريخ الحديث بخروجه كلياً من النطاق الحضاري الغربي.

المِنحَة في بطن المِحنَة

وقتها، سيُصيب العالم اضطرابٌ سياسيّ من أجل إعادة ترتيب النظام الدولي جيوسياسيّاً، قد يُفضي يوماً إلى حربٍ عالميّة، وسيُصيبه كذلك أزمة اقتصاديّة ضخمة، باتت في حكم المؤكدة لأسبابٍ بنيويّة وتاريخيّة في صُلب النظام بما يتجاوز مُجرّد الأسباب السياسية كما تحاول الدعاية الأميركية تصوير الأمر. ومما هو مشروع بالطبع، أن يثير مثل هذا الموقف المخاوفَ لدى الناس، لما سيكون له من آثار جذرية خطيرة على حيواتهم، فمن المؤكد أن أبسط مقومات الحياة وأكثرها ضرورة ستتأثر سلباً، تحديداً عند الدول الأضعف والمُجتمعات الأكثر هشاشة، خصوصاً مع قدرة الدول المهيمنة على تصدير الأزمات لغيرها من الدول، وتحميلها نصيباً أكبر نسبياً من تكاليفها.

إلا أنه ككلّ شيءٍ في العالم، قد تأتي المنحة في قلب المحنة، فما لم يبدأ أحدهم في لحظة غباءٍ انتحارية مهرجاناً نوويّاً ما، فإنّ ذات الأزمات التي ستسبّب خسائر – كمّية بالأساس – بفعل التمترسات الإقليمية وانكماش التجارة الدولية وتفكّك النظام العالمي، هي ذاتها ستُضعف قبضة ذاك النظام عن أعناق تلك الدول الصُغرى، وتفتح آفاقاً أوسع للمناورة بين القوى المتصارعة.

كما من شأن ذلك أن يتيح فرصةً تاريخيّةً نادرة لإعادة صياغة تقسيمٍ جديدٍ للعمل الدولي، وإمكانية أسهل نسبياً لإعادة تموضع جيوتاريخيّة (بتعبيرات “نظرية النُظم العالمية”) للدول والمجتمعات التي ستنجح في استغلال تلك الفرصة، والانتقال باقتصاداتها لمرتبة أعلى كمّياً وكيفياً في ذلك التقسيم؛ ومن ثم في النظام العالمي بمجموعه، وليكن انتقالاً من دولة طَرفية إلى دولة مركزيّة مثلاً، وذلك بتوصيفات النظرية المذكورة لتراتبية النظام العالمي. فالقيود الخارجيّة على القدرات المحليّة للتطوّر والنمو في الدول الطرفية التابعة، لا تضعف نسبياً إلا في سياق كهذا، إذ ترتفع معه قليلاً – واضطراراً بالطبع – أيدي المراكز الإمبريالية عن أعناق الأطراف، فتتفتّح إمكانات التطوّر المكبوتة.

تدعمُ هذا الضغوط الحاسمة لأوضاع الأزمة نفسها وما تفرضه من تحديات وتهديدات لأوضاع الحكومات المحلية، التي مهما كانت محدودة الكفاءة وفاسدة التكوين وريعية الميول والاهتمامات، وربما بلا أي مشروعٍ تنموي! على الإطلاق، فإنها تجد نفسها مضطرّة لبعض الإصلاحات النوعيّة على جبهات القدرة الإنتاجية والإصلاحات الاجتماعية؛ وإلا عرّضت نفسها لمخاطر الانهيار التي تتزايد في تلك الظروف.

اقرؤوا المزيد: أسعارٌ ترتفع في سوق هشّ: حوار مع عبد الله حرب. 

من جهة أخرى، يؤدي كلٌ من انكماش التجارة الدولية وتراجع الاقتصاد العالمي إلى تقلّص طبيعي في كثير من الجيوب الريعية في النظام مع تراجع تدفقات الموارد الريعية عموماً، بما يرتّب عدة آثار مُتضافرة تدعم بروز توجّه تنموي استقلالي بشكل عام. أوّل هذه الآثار هي على المستوى السياسي، مُتمثّلةً في ضعف المراكز السياسية لتلك الجيوب خارجياً، وتحسّن إمكانات الحِراك الاجتماعي والضغط الشعبي عليها داخلياً. وثانيها على المستوى الاقتصادي، مُتمثّلةً في خفوت آثار “المرض الهولندي” الريعية التي خرّبت الإمكانات التصنيعية والقطاعات السلعية التجارية في تلك الجيوب والمناطق المرتبطة بها، ومعها تراجع الإمكانات المُتاحة لممارسات “السعي للريع” والنفوذ الاقتصادي والاجتماعي للمجموعات الريعية لصالح مجموعات أكثر إنتاجية واستقلالاً.

ربّما ينطوي كلّ ذلك على قدرٍ من المبالغةً في التفاؤل، إلا أنّ الخبرة التاريخية تؤكّد على الدور الحاسم للأزمات والتحديّات، أو ما يمكن تسميته بـ “وخزات التاريخ”، في فرض التحوّلات الضرورية المؤجلة، أو على الأقل في تحقيق بعض من التطور تجاهها حتى في ظلّ أسوأ التكوينات السياسية والاجتماعية.

وبالعودة بالتاريخ لأقلّ من قرن، نجد أن الصناعة المصرية مثلاً لم تحقّق أكبر طفراتها في تاريخ مصر الحديث سوى بالتزامن مع أكبر كساد عالمي عرفته الرأسمالية في تاريخها كلّه، كذا ضمن، وجزئياً بفضل، الحربين العالميتين نفسيهما. كما أنّ التعداد الصناعي والتجاري لعام 1937 يُثبت ذلك، فحوالي 60% من المنشآت الصناعية المصرية الموجودة وقتها أُقيمت فقط خلال العقد 1928-1937. بالإضافة إلى تقديرات تُشير بأن رؤوس الأموال المُوظفة في الشركات المساهمة الصناعية تضاعفت بحوالي 470% خلال الفترة 1919-1946، أي فترة ما بين الحربين تحديداً.

ثمّ لاحقاً، بدأ ذلك الانتعاش المؤقت في الإنتاج الصناعي بالخفوت التدريجي بمجرّد انتهاء الحرب العالمية الثانية، متراجعاً من نسب نمو 19.8% و11.5% عاميّ 1947 و1949 إلى نسب نمو 5.6% و0.08% عاميّ 1951 و1952. ولم تعرف الصناعة التحويلية المصرية من حينها سوى تحسّن محدود بقيادة الدولة الناصرية، لتعاود الدخول في حالة أقرب للركود عند مستوى دون خُمس الناتج المحلي الإجمالي عبر خمسة عقود كاملة منذ السبعينيات.

ما يعنيه كلّ ما سبق، أنّ أزمةً عالمية لا تعني بالضرورة أزمةً محلية، فمهما تأثّرنا سلباً، وبالطبع سنتأثر، فإنها قد لا تكون شراً كاملاً بالنسبة لنا، بل ربّما تكون فرصتنا المنتظرة إذا أحسنّا استغلالها والاستجابة المُستقلة الفعّالة لما ستولّده من إمكانات. لذا من الضروريّ بناء سرديتنا الخاصة المنطلقة من واقعنا الفعليّ والمعبّرة عنه، فلا نرفع المظلاّت إذا أمطرت في الغرب وإن طالنا بعض الرذاذ، فربما يكون ذلك المطر وتلك الصواعق فرصتنا هنا لإيجاد مكان لنا تحت الشمس!

موسم الصعود على الجثث!

إنّه عصر إعادة ترتيب كل شيء في العالم، وككل تغييرٍ كبيرٍ ستكون له ضحايا على الطريق، وستصحبه جدليّة مُعقدة من الصراعات والتحالفات ضمن عملية إعادة ترتيب المواقع من النظام وإعادة توزيع الحصص فيه. باختصار، هي لحظة قومية جديدة، وغالباً لا مستقبل فيها للوحدات السياسية الصغيرة، اللهم إلا لأسباب جيوسياسية عَارضة. فيما لن تنجو سوى الأمم التي تستطيع توحيد إرادتها، وبناء تحالفات وتكتّلات قويّة بما يكفي لرسم مجالها الحيوي وفرض نفوذها المُستقلّ، وبالنسبة للعرب، فربما تكون فرصتهم الأخيرة.

لا يملك العرب إمكانية التأثير الحاسم في النظام العالمي، وذلك بحكم تواضع قدراتهم وتشتّت قواهم، بل والأسوأ، تبعيتهم التاريخية. لهذا، فإن أقصى طموحهم هو التحرّر من تلك التبعية، وتحقيق قدر ولو كان بسيطاً من التعاون والتكامل الإقليمي يضمن لهم حداً أدنى من السيطرة على شرط وجودهم السياسي وتجديدهم الاقتصادي والاجتماعي. فهذا شرط أساسيّ وقاعدة إنطلاق، لئلا يكونوا مُجرّد ضحايا جُدد للموجة الجديدة من إعادة بناء النظام العالمي، كما كانوا دوماً عبر خمسة قرون مضت، ناهيك عن كونه ضرورة حتمية للقدرة على خوض صراع الباع والذراع الذي سيعيشه العالم في موسم تبديل المواقع والصعود على الجثث القادم قريباً.

اقرؤوا المزيد: كيف ننجو من المقصلة؟ تجربة تعاونيّة أرض اليأس. 

وعلى المستوى الاقتصادي البحت، فإن الأسواق التي تكون في ظروف اعتيادية شبه مُغلقة بحصص سوقيّة راسخة تاريخياً، ونادراً ما يستطيع أطراف جُدد الدخول فيها بحصص مُعتبرة إلا بعد سنوات طويلة، وربما بتحمّل خسائر غير هيّنة خلال تلك الفترات في بعض الحالات، هذه الأسواق، أو بعضها على الأقل، ستكون موضوعًا لموسم الصعود على الجثث المذكور، بإعادة هيكلتها وإعادة توزيع الحصص بها. ما سيحدث بالتوازي مع ذلك، هو إعادة توزيع أخرى أعمق، على مستوى البُنى الاقتصادية والقدرات الإنتاجية، أي على المستوى الأعمق من التقسيم الدولي للعمل.

رهان.. ربّما أخير!

لقد فشلت تلك الموجة من العولمة، أو أوشكت على ذلك، وكانت الليبرالية إحدى أدواتها لإدامة فتح الأسواق بالدول الطَرفية، وقتل أيّة إمكانية ولو ضئيلة للتصنيع – كجوهر وأساس للتنمية – بها. ولعلّ هذا التراجع في العولمة المُصاحب للانكماش الحتمي في التجارة الدولية كنتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية المُنتظرة والشقاق السياسي الدولي المُتصاعد، هو فرصتنا التاريخية للتحرّر من تلك الليبرالية المفروضة كأيديولوجيا هيمنة في أردية الإنسانية الجامعة. تلك الإيديولوجيا التي يتكشّف نفاقها التاريخي في موقف الاقتصاديين الأميركيين أنفسهم بعد استقلال الولايات المتحدة، عندما كانوا يعتبرونها على خُطى الاقتصادي القومي والتاريخي الألماني “فريدريك ليست”، مُجرّد “أيديولوجية بريطانية” تستهدف فتح الأسواق للصناعة البريطانية، وإدامة تخلّف أسواق الدول الأخرى كمنافذ تصريف لسلعها، قبل أن يتحوّل موقف خَلفهم لاحقاً لذات الموقف البريطاني بعد استكمال بناء الصناعة الأميركية، لتصبح الليبرالية أيديولوجية التكامل الإنساني وحرية التجارة لأجل الرخاء الإنساني المشترك!

لهذا، لا ينفصل التحرّر من تلك الليبرالية عن مشروع التنمية العربي، بل هو شرط أوّلي ومقدمة حتمية له. إنّها العودة للمبادئ التاريخية الكلاسيكية للتنمية والتحديث: استقلال بالسوق القوميّة على قاعدة التصنيع لاحتلال مساحة عادلة كمّاً وكيفاً من تقسيم العمل الدولي؛ مساحة على الأقل توازي كمّياً الحجم الديموغرافي والفيزيائي للأمة من مُجمل المجتمع الإنساني، وتعادل كيفياً مستوى تطوّره الاقتصادي والاجتماعي العام.

اقرؤوا المزيد: علي قادري.. التنمية تحت تهديد الحرب في العالم العربي.

يشترط هذا التحرّر بلا شك توافر “العامل الذاتي”، إذ يبقى مجرّد سيناريو، أقرب للتفاؤل الشديد، دونما توافر إرادة داخلية وحافزٌ ذاتي. وهذه أمور إذا ما نظرنا فيها نُصاب بالإحباط لحالة الهُزال الشديد للوعي الشعبي العربي، والضعف والإفلاس الشاملين لكافة قوى التحرّر الوطني، ناهينا بالطبع عن قوى واتجاهات الأنظمة الحاكمة المتواطئة مع المصالح الخارجية.

مع ذلك، يظل لدينا رهان، يدعمه الحسّ السليم وخبرات التاريخ، على ما تفعّله ديناميات الأزمة المنظومية نفسها من حالة ضعف في قوة ترابط المنظومة، وتغيير مُعتبر في بُنى الوعي في تلك الأوقات الجذرية، فضلاً عن إعادة هيكلة شبكات المصالح بما فيها مصالح الأنظمة المحلية نفسها، وكذا ما ستخلقه الأزمة من فراغات جوهرية في المنظومة (بضعف الهيمنة الخارجية والجيوب الريعية) مع ضغوط موازية تحفّز على ملئها (من هوامش ربحية ناشئة ومخاوف عدم استقرار متصاعدة). هي فرصة تاريخية نادرة يجب أن نُراهن عليها، وجديرٌ بنا أن نسعى لاقتناصها، مهما بلغت ضآلتها

– متراس

مقالات ذات صلة