السنترال

لـ يحيى صافي

حرير – لم تغنِ فيها أم كلثوم يا مسهرني، ولم يكتب فيها نجيب محفوظ اولاد حارتنا، ولم يعقد فيها عبد الناصر إجتماعا سرياً لضباطه الأحرار.. هي مقاهي عادية، متناثرة مثل الجدات الصلبات في زوايا وبلاكين ساحة فيصل وشارع السلط، تحاول أن تحافظ على أناقة حيطانها الحجرية بلوحات منسوخة لفنانين كبار/ كفيروز والست، والعندليب الأسمر، ومن باب التجدد ومجاراة غير مفهومة لموجة (المقاهي المستثققة) التي ظهرت في العقدين السابقين لعمان البلد ترى صورتين لمحمود درويش ولزياد الرحباني،
صباحاً ترى بلاكينها ومقاعدها الديمياطي شبه فارغة إلا من بعض مدخني الأرجيلة التمباك العجمي، وصوت فيروز لابد حاضر هنا، في مقهى السنترال مثلاً يختلط نداء فيروز ( سألتك حبيبي لوين رايحين) مع إيقاع شارع فيصل، بعادية أخاذة، يحرك فيك إحساس الإنتطار، أو اللقاء، أو الشوق، أو الحسرة، او كلها دفعة واحدة.
هنا في مقهى السنترال لا يوجد تاريخ بطولات، ولا سير أبطال، ولا أمجاد ثوريين أصبحوا فيما بعد طغاة وسفلة.
هنا بين جنبات هذا المقهى العادي ذاكرة وسط بلد، وناس نعرفهم وتربطنا بهم قرابة الدم النظيف، منهم من ترجل بتلقائية متوقعة كالراحل الأخير أمجد ناصر، وقبله الشهيد ناهض حتر، والمرحوم ميشيل النمري، والراحل خيري منصور، والشاعر الجوال محمد القيسي، وجمال ناجي، وغيرهم كثيرين ترجلوا عن بلكونة السنترال المعرشة بالقصب تلك التي ترجلت بدورها، وأحتلت بقاياها دعايات أورانج، وزين الفجة.
وليس بعيد عن هنا أحبة يترددون هنا وما زالوا يمسكون بعناد خيالة رسن الحياة ( ليس كما الماضي، ولكنهم يحنون فيأتون)، فليس بعيد عن هنا الأديب مفلح العدوان ذو الإبتسامة الطيبة، والشاعر زهير أبوشايب ذو الروح العالية ، ويوسف عبد العزيز، والطاهر رياض، وإبراهيم غرايبة، و
غسان ووضاح زقطان، وكمال خليل، وجمال و يحيى القيسيين، ونائل العدوان، وكأنه قدر لهذا المقهى الوديع أن يكوت ديوان وثير بالأقارب والأنسباء.
يمر من هنا الصعاليك العتيقين من كتبة رصيف ساحة فيصل، الذين ضاق بهم الحال، أطل الآن من بلكونة السنترال على جمال زهران ينتظر، من، وماذا؟ لا تعرف، ربما على موعد مع تيسير نظمي، أو ربما تلقف خبر قدوم زياد خداش ومهيب البرغوثي من رام الله عبر جسر الملك حسين، فجلس قرب مكتبة الطليعة ينتظر، الله وحده يعلم ماذا ينتظر جمال زهران.

إذا ليس لهذا المقهى ولا لغيره من المقاهي هنا في وسط البلد تاريخ بطولات، وأرجو أن لا يكون له، هنا كان مقهى للرجال غالباً رغم أن بعض فتيات اليسار خاصة في الثمنينات من القرن الماضي قد اقتحمن بلكونات السنترال، وأضأن بلكوناته بالحضور الأنيق.
هنا أحن لماضي بلا أمجاد فخمة، أحن لماضي الحراك الوطني، والثقافي نظيف الدم والرؤى ، ماضٍ بلا انزلاقات في وحل الخمول والعبط، أحن لماضٍ كان للقهوة هنا فيه رائحة القصيدة، وللصباح هنا فيه إيقاع سوناتة باذخة لباخ.
* مقهى السنترال، شتاء ٢٠١٩

مقالات ذات صلة