هل الصين قوة استعمارية؟

بقلم جيمس ميلوارد – (نيويورك تايمز)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
  في رواية أقل شهرة، “كلاوديوس بومبرناك”، يصف الروائي جول فيرن مغامرات المراسل الأجنبي الذي سميت الرواية باسمه بينما يسافر على “سكة الحديد الكبرى العابرة للحدود” من “الحدود الأوروبية” إلى “عاصمة الإمبراطورية السماوية”.
وثمة فريق من الشخصيات الدولية، الكوميدية بدورها والفضولية والظلية، التي تصاحب الصحفي الفرنسي في القطار من بحر قزوين إلى بكين، ويفلت المسافرون بالكاد من العصابات ليقوموا بتسليم حمولة غامضة.
عندما نُشرت الرواية أول الأمر في العام 1893، كان الكتاب رواية خيالية مستقبلية.
لم تكن هناك سكة حديدية متصلة تمر عبر أوراسيا.
وليست هناك واحدة حتى هذه اللحظة.
لكن الصين أصبحت تستشرف الآن، بعد 125 عاماً، تمويل وبناء مثل هذه الطرق البرية (وبقطارات أسرع بكثير).
وسوف يشكل ذلك جزء “الحزام” مما تسميه الصين مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”: حيث تقوم أيضاً بإنشاء سلسلة من الموانئ الجديدة، من بحر الصين الجنوبي وعبر المحيط الهندي إلى إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.
أعداد وحجوم المشاريع المقترحة هائلة تخطف الأنفاس، وتتجاوز بكثير حتى مخيلة كاتب قصص الخيال العلمي.
وقد أثارت الرهبة، والشكوك السوداء في كثير من الأحيان، بين العديد من المراقبين الأجانب.
تماماً بعد أن كان فيرن يكتب روايته، كانت شركات أجنبية تقوم ببناء أول سكك حديدية صينية رئيسية، والتي كانت تموَّل بالقروض الأجنبية لسلالة تشينغ شبه المفلسة.
وفي غضون عقدين، أشعلت الصراعات على الملكية الأجنبية لسكة الحديد الصينية ثورة أطاحت بتلك السلالة في العام 1912.
واليوم، أصبحت الضحية السابقة لإمبريالية السكك الحديدية الغربية تقوم بإقراض مليارات الدولارات لبلدان في جميع أنحاء آسيا وأفريقيا وأوروبا ، وليس لبناء سكك حديدية فحسب، وإنما لبناء الطرق السريعة، والموانئ، ومحطات الطاقة وأنواع أخرى من البنية التحتية.
كان التقدم الاقتصادي الذي حققته الصين على مدى القرن الماضي مذهلاً، وأخرج مئات الملايين من الصينيين من ربقة الفقر. ولذلك، عندما تعرض الحكومة الصينية تقاسم خبرتها في التنمية ، وهي ثيمة سائدة في خطبها ووثائقها الرسمية ،  فإنها يجب أن تُؤخذ على محمل الجد.
لكن الأصداء التاريخية تبدو مقلقة.
فقد وافقت سريلانكا، غير القادرة على سداد مبلغ 8 مليارات دولار التي تدين بها لمؤسسات تمتلكها الحكومة الصينية مقابل بناء بنية تحتية رئيسية في أراضيها، وافقت مسبقاً على تأجير مينائها في هامبانتوتا للصين لمدة 99 سنة.
وهذه بالضبط هي الفترة التي كانت سلالة تشينغ قد أجرَّت بها ميناء استراتيجياً آخر، هونغ كونغ، للبريطانيين في ظروف تلخص الكولنيالية.
وهكذا، يتساءل المرء: هل تمثل الصين نموذجاً جديداً للتنمية لعالم يمكن أن يستخدم واحداً، أم أن “حزام واحد، طريق واحد” هو في حد ذاته الاستعمار الجديد؟ لأن هذه السكك الحديدية والمشاريع الأخرى تتطلب الأمن، فإنها تقوم بتوسيع الوصول السياسي للحكومة الصينية إلى آسيا الوسطى، وباكستان والشرق الأوسط. وبينما تقوم بكين بتحويل بحر الصين الجنوبي إلى لعبة “داما” هائلة حيث عليك محاصرة مربعات الخصم واحتلالها، فإن موانئها الجديدة في بنغلاديش، وسريلانكا وباكستان، وربما المالديف، تشرع في أن تبدو مثل مربعات لعب إضافية.
يبدو حديث الصين الجميل عن التنمية والتعاون أشبه بغطاء لهجوم استراتيجي، وهو كذلك بالتأكيد.
ولكن، إلى جانب الاستثمار مالياً في البنية التحتية، فإن مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” تستثمر أيضاً في هيبة الصين من خلال إرسال رسالة كونية تردد كل النغمات الصحيحة  ( السلام، التسامح متعدد الثقافات، والازدهار المتبادل ) ويحدد هذا الخطاب المعايير التي يمكن من خلالها محاسبة الصين.
قامت الحكومة الصينية بإطلاق هذه المبادرة مع الكثير من الجلبة ونفخ الأبواق، وعرضتها في شكل المشروع المعلَمي الذي يعرِّف سياسة الرئيس شي جين بينغ الخارجية، وفي المقابل، عامل الخارجيون المبادرة كمشروع متآلف.
وفي الحقيقة، تتكون المبادرة من عدة عناصر: ثقافية، ودبلوماسية، وتنموية، بالإضافة إلى العناصر التجارية والاستراتيجية.
ولا يمكنك في الحقيقة أن تبدي الإعجاب ” أو عكسه ” بالحزمة بكاملها، لأن “حزام واحد، طريق واحد” ليست أقل من تغيير العلامة التجارية لكامل السياسة الخارجية للصين، بكل تعقيداتها.
على سبيل المثال، يشكل استكمال خطوط المعالم البارزة مكوناً ثقافياً عادة ما يتجاوزه المراقبون: العديد من البرامج المدرسية، والتبادلات الثقافية، والعروض الفنية، ومعارض المتاحف، والعروض الموسيقية، وحفلات الرقص، والاستكشافات الأثرية، ومناسبات التعاون مع منظمة اليونسكو. وتلعب هذه التمديدات للقوة الناعمة الصينية على فكرة “طريق الحرير”، التي تمثل ذلك العصر الذهبي الأسطوري القديم للتجارة غير المقيدة، والتآزر بين الثقافات.
وفي الحقيقة، لم يكن هناك أبداً “طريق حرير” واحد مفرد (ولا طرق متعددة) تربط الشرق بالغرب، والتي يمكنك أن ترسمها على خريطة؛
وبدلاً من ذلك، تفرعت التجارة في شبكات عبر كامل نطاق أوراسيا –كما فعلت في الأماكن الأخرى.
وقد لعبت مكائد الإمبراطوريات دائماً دوراً أكبر في تعزيز التبادلات مما فعل التجار الأفراد المقدامون.
لكن فكرة “طريق الحرير” (على النقيض من فكرة “اللعبة الكبرى” على سبيل المثال) ليست مهدِّدة، وإنما هي رؤية ملونة بالجِمال والأسواق المليئة بالسلع والكماليات الغريبة والمثيرة.
وقد ربطت الصين سياستها الخارجية بذكاء بأسطورة تاريخية بهيجة، والتي توحد الشعوب الأفرو-أوراسية. وهي حكاية يمكن سردها –حرفياً- كقصة تحُكى وقت النوم عن “المشاركة” والزرافات.

مقالات ذات صلة