المقاومة الفلسطينية في مواجهة الشيطنة

سمير حمدي

حرير- مباشرة بعد أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول التي هزّت البنية العسكرية والمعنوية للاحتلال الصهيوني وأحدثت حالة من الهلع لدى النظام الاستيطاني الجاثم على الأرض الفلسطينية، تحرّكت آلة الدعاية الصهيونية من خلال أذرعها الغربية باندفاع شديد لامتصاص حالة الصدمة الناتجة عن الهزيمة ولتحويل الحدث من عمل مقاوم إلى عمل إرهابي، بغرض تجريد المقاومة من رصيدها الأخلاقي، وحشرها في زاوية جماعات الإرهاب.

لقد تحرّك خبراء الجماعات الإسلامية المزعومين الذين راجت تجارتهم بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول يعرضون بضاعتهم بشكل هستيري، ويعاضدهم في هذا المسعى منظّرو “صدام الحضارات” وخبراء الدعاية المفعمين بكراهية الآخر المتشبثين بتصوّرات بالية عن الإسلام، وكأنهم بُرمجو للتفكير بثنائية الأضداد (العالم الحرّ ضد البرابرة المتوحشين، الغرب في مواجهة الإسلام). وكان المطلوب شيطنة المقاومة الفلسطينية وتحويلها إلى نسخة جديدة من تنظيم داعش. ولترسيخ الفكرة، جرى اختراع كذبة الأربعين رضيعا الذين ذبحتهم “حماس” بكل وحشية.

الخطوة الأولى الضرورية لتبرير عملية إبادة أي شعب شيطنته، بما يجعل دماء الأبرياء مجرّد فاصل بسيط في صراع أكبر طرفيه هو التحضّر الذي يمثله الكيان الصهيوني في مقابل الشرّ المحض الذي تجسّد في المقاومة الفلسطينية، وهو ما اختصره وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بقوله “إن حماس شنّت حربا بربرية على إسرائيل، وستكون هناك الكثير من الأيام العصيبة أمامنا، ولكن قوّة الحضارة سوف تسود”.

وهكذا تحرّكت الإدارة الأميركية في سياق عام نحو تشكيل حلف مضادّ لما يعتبرونه تهديدا للقيم الغربية التي يمثلها الكيان الصهيوني، حسب الرؤية الغربية الرسمية التي تحاول فرض سرديّتها عبر استبعاد ثنائية مقاومة/ احتلال، وسرعان ما وجد الخطاب الغربي الرسمي كما جسّدته الإدارة الأميركية نفسه قد انزاح عن تصوّراته الإيديولوجية الليبرالية المعتادة التي ترفع شعارات الاعتراف بالآخر وحقوق الإنسان، لتستعيد خطابا دينيا تجلّى بوضوح لدى الوزير الأميركي عندما صرح بأنه جاء إلى إسرائيل بوصفه يهوديا أيضا. ومن جهة ثانية، سارع الإعلام الغربي المنحاز للرؤية الصهيونية إلى التركيز على فكرة الحرب بين “حماس” وإسرائيل، محاولا انتزاع العمل المقاوم الذي تتصدّره حركة المقاومة الإسلامية عن سياقه العام، أعني بوصفه حلقة من حلقات الكفاح الفلسطيني المتواصل ضد الاحتلال منذ 1948، وساهمت فيه تيارات وقوى وطنية وإسلامية ويسارية.

المفارقة الغريبة التي أحدثتها المقاومة الفلسطينية، عبر التزامها بالقيم الأخلاقية، والتي وردت في شهادات الأسرى المُفرج عنهم، كسرت السردية الصهيوأميركية التي حاولت ترويج نموذج “داعش” بوصفه المثال الذي ينبغي القياس عليه عند التعامل مع ظاهرة المقاومة التي تواجه الاحتلال الصهيوني، فمحاولة الربط التبسيطي بين المقاومة والإرهاب كانت فاشلة، على الأقل من جهة عجزها عن إقناع الجمهور العام في الدول الغربية ذاتها بمصداقية ما تروّجه عن الصراع القائم في الأرض الفلسطينية. وفرضت المقاومة معادلة جديدة في الصراع، قوامها التكافؤ بين الجانبين في صراع الإرادات، رغم العنف العبثي الذي يمارسه الاحتلال عبر استهداف المدنيين وإغراق القطاع بالضحايا، لاستخدامهم ورقة ضغط لدفع المقاومة نحو التنازل والخضوع لشروط دولة الاحتلال، وهو ما عجزت عن فرضه، رغم القوة التدميرية الهائلة التي سلطتها على قطاع غزّة.

كانت الاستراتيجية الصهيونية تقوم دائما على ثنائية المبادرة بالهجوم، ثم ادّعاء المظلومية من خلال استحضار تاريخ المحرقة الذي لا يزال مهيمنا على الذهنية الغربية، غير أن ما جرى هذه المرّة هو مبادرة المقاومة إلى توجيه ضربات استراتيجية من جهة، ثم قدرتها على التعامل مع ردّ الفعل الصهيوني، وفي الوقت نفسه، المحافظة على أخلاقية المعركة وإحياء القضية الفلسطينية في وجدان الجماهير العربية التي تعاني من هيمنة أنظمة شمولية موالية للغرب.

ورغم الخذلان الواضح الذي أبدته عدّة أنظمة عربية، كان رد فعل الشارع العربي مؤيدا للمقاومة، حيث خفتت أصوات المنادين بالتطبيع ومهندسي مشاريع الاستسلام، وتجاوزت رمزية المقاومة الفلسطينية حضورها الوطني، لتصبح علامة على مواجهة إيديولوجيا الهيمنة التي يمثل الكيان الصهيوني طليعتها في المنطقة. ومن هنا، يمكننا أن نقرأ التفوّق المطلق للمقاومة في قدرتها على مباغتة القوة المعادية وإفشال مخطط التضليل والشيطنة، في وقت يعجز فيه المحتل رغم قوته الظاهرة والحلف الذي يقف وراءه عن تحقيق أهدافه رغم كثافة التدمير والقصف، إلا أنه يظل خاسرا بحساب حرب الإرادات، بل وانعكس هذا الفشل على البنية الداخلية للعدو الذي أصبح في حالة من التخبّط باحثا عن أي انتصار ظاهري في معركةٍ لم يكن هو، خلافا للمعتاد، من اختارها. وبالتأكيد لن يكون قادرا على حسمها لصالحه، طالما استمرّ الاحتلال، فإن المقاومة ستستمر باعتبارها المكافئ الموضوعي لوجوده، ولن تتوقّف إلا برحيله.

مقالات ذات صلة